حذار من الريح والأنواء وويلات العواصف

حذار من الريح والأنواء وويلات العواصف

بقلم نوفل بن عيسى

مهما قالوا ومهما زعموا فإن تونس اليوم في مهب الريح. بلا هيبة ولا حرمة، صارت البلاد حديث العالم بعدما جانبنا الصواب وأتينا بالعجب العجاب طيلة عشرية كاملة.
فالاعانات والتبرعات والقروضات التي تحصلت عليها البلاد فاقت كل الامال والتوقعات ورغم هذا السخاء من طرف الدول الصديقة والمنظمات الدولية والصناديق المانحة فإن الاقتصاد تراجع الى درجة أنه صار يهدد ديمومة الدولة والسلم في البلاد وكأن بهذه الاموال ذخت ليزيد منسوب الفساد إثر ثورة قامت للاطاحة بنظام قائم على الفساد والاستبداد!

وحين حل الأستاذ قيس سعيد برئاسة الجمهورية تصرف تصرف المنتقد والمعارض ولم يلبس جبة فخامة الرئيس الفاعل إلا مع حلول عيد الجمهورية الأخير إذ انقلب على الدستور والمنظومة التي أتت بها الثورة برمتها وأعلن اقالة رئيس الحكومة و"تجميد البرلمان" والبدء في مقاومة "منظومة الفشل والفساد" فنزلت الجماهير ليلتها مهللة ومباركة بحلول العهد الجديد....

-"حسابات وعقابات".

ان الشعبية الحقيقية لمرشح ما لرئاسة الجمهورية تترجمها نتائج الدور الأول من الانتخابات وعلى هذا الاعتبار فإن قيس سعيد لا يحظى في الحقيقة بالاغلبية المريحة التي عنها يتحدثون اذ ان عدد الذين صوتوا له في الدور الأول هو 620711 من 11,69 مليون نسمة -وهو تعداد الشعب التونسي حسب مصادر البنك العالمي لسنة 2019-.
وقد تحصل الأستاذ قيس سعيد على 18,4 % من اصوات مجموع الناخبين في الدور الأول مع العلم أن المسجلين سبعة ملايين و 74566 مواطنا لم يصوت منهم إلا النصف ولكن ونظرا لضعف الفائز الثاني في الدور المذكور فقد كان فوز  قيس سعيد بالرئاسة شكليا لا غير والنسبة التي تحصل عليها لا تعكس حقيقة شعبيته ولو فاز الأستاذ عبد الفتاح مورو بالمرتبة الثانية عوضاً عن "قروي قلب تونس" لتغيرت المعطيات إذ كان سيحصد أصوات النهضاويين و"المؤلفة قلوبهم" وآخرين متسترين ولكن وكأن بالحركة شاءت أن تجرد مرشحها من حظوظه وهذا ما يتردد حتى في صلبها وما يتهم به شيخها الرئيس!

وأما عدد من انتخبوا قيس سعيد في الدور الأول فقد فاق  عدد الذين صوتوا للنهضة في الانتخابات التشريعية الاخيرة بمائة الف صوت تقريبا وهي أضعف نسبة فازت بها الحركة ذات المرجعية الاسلامية منذ الثورة وهو ما يدل على أن شعبيتها الحقيقية هي في حدود 15% من الناخبين أي أن 8,5 مواطنين من عشر هم معارضون لها. وبما أن الحركة الاسلامية التونسية اليوم هي في أسوإ حالاتها فيمكن استنتاج أن "قواعدها الوفية" تتمثل في حدود 15% من جمهور الناخبين لا أكثر والذين يمثلون انصارها الأوفياء الذين لن يصوتوا لغيرها مهما حدث اللهم اذا وصلت الخلافات بالحزب الى الانقسام وهذا ما قد يحدث إن لم يعقد مؤتمره في اقرب الأجال وتمسك راشد الغنوشي بالبقاء ولم يتعظ من أخطاء الماضي وخطاياه.

ورغم أن قيس سعيد يمثل مواطنا تونسيا من خمسة مواطنين في الحقيقة كما بيٌنٌا ذلك بالأرقام فإن ما حدث في 25 جويلية 2021 غيٌر المعطيات والمعادلات ناهيك أن عمليات سبر الاراء بينت أن شعبية رئيس الجمهورية قد ارتفعت الى نسبة 82% باعتبارها تمثل مناصريه الذين انتخبوه في الدور الأول إضافة إلى الذين يعادون حزب النهضة ويرفضون المرجعية الدينية في الحكم وهو ما يؤكد ما سبق طرحه أي نسبة تقارب 85 % من الناخبين.
ولكن هذا الالتفاف حول "الرئيس الذي خلص البلاد من حكم النهضة وقطع مع منظومة الفساد والفشل" التفاف ظرفي وإلى حين الإعلان على انطلاق السباق السياسي من جديد إذ ستتراجع شعبيته إلى حقيقتها أي ما كانت عليه في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية وسيذوب جبل الجليد طبيعيا من حوله.

- وتظل دار لقمان على حالها.

وكلما اقتربنا من مواعيد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة  كلما رجعت الدرر إلى معادنها واسترجعت الاحزاب والتيارات السياسية قواعدها حتى وإن توفق قيس سعيد في تحقيق ما وعد به من مقاومة الفساد وتغيير للمنظومة السياسية والقوانين الانتخابية إذ سيظل اليساري يساريا ويظل التجمعي تجمعيا وكذلك الاسلامي إسلاميا والقوميون العرب قوميين ويظل الناخب التونسي على سذاجته ضحية العصبية والأحكام الانطباعية يتعاطف مع الأشخاص ويحن إلى العشيرة ولا يعنى بالبرامج الانتخابية ولا بالافكار والأطروحات والمقاربات العقلانية والموضوعية وسيظل الغبي يبث الحماقات دون وعي ويصر عليها ويؤكدها والبريء والابله يصدقها وتظل دار لقمان على حالها.

- "ظننت ظناً فخاب ظني".

وتونس اليوم معرضة إلى أخطار محدقة بسبب هشاشة الحالة الاقتصادية والالتزامات المالية والديون المستعصية وحيرة الدولة في توفير موارد الميزانية وتحقيق التنمية والاصلاحات الضرورية في مختلف المجالات الحيوية كالطاقة والنقل والصحة والتربية والتعليم والبيئة ومقاومة التصحر وتحقيق الامن المائي والغذائي والفلاحي والعدالة الجبائية فضلا عن العدل والامن وغيرهما من المجالات الاخرى.
وفي انتظار تحقيق الاستقرار السياسي وتنقية البلاد من المفسدين واعادة العلوية للقانون والهيبة للدولة ومؤسساتها وللمواطن الحق في العيش الكريم فإن التونسي لم يعد قادرا على الصبر على المماطلة إذ فقد الأمل في السياسيين وانعدمت الثقة في وعودهم.

 

- بعد خمس وستون سنة استقلال.

خمس وستون سنة مرت منذ الاستقلال والشعب في حالة انتظار. ينتظر تحقيق النمو والتنمية الريفية واللحاق بركب الحضارة والاقلاع الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والتأهيل الشامل واستحقاقات الثورة حتى كاد يفقد الأمل في كل شيء ويبحث عن الهجرة حتى وإن كانت بالمخاطرة بحياته.

خمس وستون سنة مرت والشعب مغتصبا في ماله وحقوقه وكرامته وسيادة وطنه ولسان حاله يكرر ابيات محمود درويش رحمه الله:
" أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي.. إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ.. حذارِ.. من جوعي
ومن غضبي!"

خمس وستون سنة مرت خيبت ظن شعب ترجم عن حاله الشاعر منور صمادح حين قال:
"شيئان في بلدي قد خيبا أملي
الصدق في القول والاخلاص في العمل"

فإذا استمر الأمر على ما هو عليه وتواصل البطء في انجاز ما يرتقبه الشعب، فإن نسبة الناخبين ستزداد تقلصا وستتزايد الاحتجاجات ويزيد المتظاهرون ويحصل انفجار  لا قدر الله. فحذار من شتاء قادم قارص وعاصف وحذار من الريح والأنواء وويلات العواصف.

التعليقات

علِّق