السلفية اليسارية فى تونس : بين ثنائية "التوحّد" و"متلازمة النهضة"

السلفية اليسارية فى تونس : بين ثنائية "التوحّد" و"متلازمة النهضة"

من التعسّف والضّيم  بمكان مقاربة مسألة اليسار فى بلادنا  ككتلة اسمنتية صمّاء متجانسة والحكم لها او عليها من هذه الزاوية الممعنة فى التعميم والاطلاق ! 
منذ نشأته، يتشكّل اليسار من طيف واسع من الروافد الفكرية والسياسية الشديدة التنوع ، فيسار "المانيفستو" يختلف عن اليسار  الفوضوى/الاناركى  "لباكونين"   "وبرودن"،  ويسارية "الأممية الشيوعية الثالثة"   متباعدة جذريا عن  "الأممية الاشتراكية" الخ، ممّا يستوجب ضرورة  مزيدا التدقيق والحذر عند مقاربة التيار اليسارى  موضوع  عنوان المقال.   

1- - المبحث الأول : ما المقصود  بالسلفية اليسارية ؟
 فى استدعاء للموروث الدينى، تحيلنا عبارة "السلفية" مباشرة الى حقبة "السلف الصالح" قبل ان يتم تجذيرها  مفاهيميا وبلورتها سياسيا فيما بعد على يد الثالوث  "ابن تيمية" و"ابن قيم الجوزية" و"محمد عبد الوهاب"، حيث تدعو أتباعها "الى العودة الى نهج السلف الصالح كما يرونه والتمسك به باعتباره يمثل نهج الإسلام الأصيل والتمسك بأخذ الأحكام من الأحاديث الصحيحة دون الرجوع للكتب المذهبية و يبتعد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه"، بهذا المعنى تٌعدّ السلفية منهج ارتجاعى فى التفكير(الارتداد إلى الخلف)  يشتغل ضمن مجالات ماضوية بعيدة حاملة لصبغيات مكثفة من الصّفاء والنقاوة القيمية الخالصة.
غير بعيد عن هذا المنحى الارتجاعى فى التفكير، شهد تاريخ اليسار التونسى بداية ستينات القرن الماضى ولادة عسيرة  لأرخبيل  يساري راديكالي انطلاقا من  "مجموعة أفاق"،  مرورا بالعديد من التنظيمات القزمية "الماوية" و"التروتسكية" و"القومية المتشددة"  وانتهاء بأنصار إمارة "أنور خوجة" الألبانية، جميعها كانت تشتغل ضمن نسق ذهنى سكولائى/كنسى مٌقفل يقوم على ثنائية الإسقاط/الاستنساخ، فأمسى مؤلّف "ما العمل؟" للزعيم البلشفى لينين و"المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" لستالين و"الكتاب الاحمر"  لماوتستونغ  بمثابة الأناجيل المقدسة التى لا يجب الانحراف عنها ...
فان كان من اليسير جدا، على الأقل من جانبنا، الاكتفاء بتوصيف  هذا التيار "بجماعة  الدغمائين"  فى التعاطى مع الأدبيات ذات المرجعية الماركسية، الا ان اصرارهم على التمترس الى اليوم داخل جغرافيات عقائدية مغلقة ومتكلسة وعدم رغبتهم فى التحرر من خلال  اعمال الفكر النقدي حوّلهم تدريجيا إلى "طائفة عقائدية وسياسية" لا تختلف كثير عن المنظومات السلفية والطائفية التى عرفها التاريخ الاسلامى، تتموقع على طرف نقيض مع العديد من الوجوه اليسارية المجدّدة التى عرفتها أوروبا عشرينات/  ثلاثينات القرن الماضى على غرار المفكر "أنطونيو غرامشى" وغيره من أعلام الفكر اليسارى التى عمدت الى تحديث الخطاب الماركسي من الداخل بهدف  نحت هويات يسارية محلية فاعلة ...
لكن عندما تتوقف عقارب الساعة فى حدود "أحداث ماى 68" وهوامش "المراهقة البروليتارية" التى عرفتها ثمانينات  القرن الماضى،  وعندما تتخلص أغلب التيارات اليسارية فى العالم - باستثناء أصدقائنا السلفيون - من وثنية اليسار الراديكالى لترسم لنفسها مسالك وافق جديدة للتحرك والبناء فى عالم متغير، فإن عملية توصيفهم باليسار السلفى تجد طريقها دون ادنى لبس...
وان كان لهذا التيار منجز  وحيد   فإنه لا محالة مشروع "الجبهة الشعبية" -  فرصة النجاة التى لن تتكرر - والتى سرعان ما تم نسفها بسواعد ومعاول رفاق الأمس خصوم اليوم الألداء...

2-  - المبحث الثانى : المراوحة بين "التوحّد"  و"متلازمة النهضة"
 فى مواكبة لتطور الخطاب  اليسارى السلفى ما بعد 2011  نعاين انه لازال يحوم حول معجم مغلق تحكمه قوالب شعاراتية خاوية وكلمات مفاتيح سلفية المنشا  مثلما تؤشر إليه بمنتهى الوضوح ما تضمنته  إحدى البيانات الاخيرة للجنة المركزية "لحزب العمال" بتاريخ  11 جويلية 2019 حيث جدّد الحزب تمسكه بالجبهة الشعبية "إطارًا سياسيًا وتنظيميًا مناضلًا ومنحاًزا للشعب ومعاديًا للتحالف الطبقي والسياسي الرجعي الحاكم بفرعيه، الحداثوي والظلامي".
وأن الجبهة الشعبية خاضت "صراعًا داخليًا بين الخط المتمسك بالاستقلالية السياسية للجبهة وبأرضيتها الثورية والتقدمية المتماسك وبين الخط الانتهازي اليميني (فى اتهام مباشر الوطد) الذي يريد تحويل الجبهة إلى احتياطي عند الشق الليبرالي من منظومة الفساد والاستبداد والتبعية"، خطاب لا يختلف كثيرا عن الخطب الستالينية النارية التى عرفتها الجامعة التونسية منذ اكثر من أربع عقود خلت، شديد القصور على تمثّل استحقاقات اليومى المعاش بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية المركّبة، اذا بالنتيجة نحن حيال  خطاب موغل فى السلفية العقائدية والتوحّد السياسى...
واعتبارا بأن ضعف التواصل مع الاخر المختلف يعتبر من ابرز أعراض اضطراب "طيف التوحّد" ، فالسلفية اليسارية عندنا ،  بحكم  جمود وتكلّس قاعدتها العقائدية بفعل التقادم،  أخفقت فى عقد تحالفات دائمة مع أى طرف سياسى كما عجزت عن تأمين عملية التواصل حتى داخل مؤسساتها  مما صيّرها إلى حالة من حالات التوحّد البنيوى المستعصي الذى يصعب تداركه...
وتزامنا مع ظهور منافس جديد بمرجعية  اسلامية  سبعينات/ ثمانينات القرن الماضى  تفاقمت حالة "التوحّد"  لدى العديد من فصائل اليسار السلفي المسيطر آنذاك على الوسط الطالبى، وأمست قاعات  الدرس مجرد "غرف لرجع الصدى" لخطب الرفاق "وغزواتهم السفسطائية" المنفصلة تماما عن الواقع فى مواجهة التيار الإسلامى الصاعد  دون ان يكون لذلك ادنى أثر يذكر على مستوى الفعل المجتمعى...
  منذ تلك اللحظة سجلنا  بداية إصابة  هذا الشق من اليسار التونسى بمتلازمة جديدة - إلى جانب  "التوحّد" - مستمرة للأسف إلى اليوم،  يمكن تسميتها بمفردات الحاضر "بمتلازمة النهضة" التى تنبنى ميكانيزمات اشتغالها على ثنائية الضدية/العدوانية، ضدية ذات طبيعة "بافلوفية" عن كل ما يصدر عن الحركة خطا كان أم صواب ، وعدوانية غرائزية متأصلة  بحمض نووى متوارث من جيل إلى اخر...
فالامعان الممنهج فى ممارسة عادة الضدية-العدوانية  يعكس : 
-    من جهة، مدى عجز اليسار السلفى على فهم واستيعاب  دينامية تجربة الاسلام السياسى فى بلادنا  - تحديدا حركة النهضة - التى تعيش على وقع جدلية الممانعة / التطبيع، معركة ما قبل وما بعد 14 جانفى 2011 التى من  شانها  أن تحسم بشكل نهائى مسالة انخراط الحركة فى مشروع استكمال تحديث ودمقرطة الدولة الوطنية.   
-    ومن جهة ثانية، تعكس أيضا مدى عجز اقطاب اليسار السلفى من تحسّس خطوط التمايز  بين النهضويين ونظراءهم فى مصر والسودان على وجه الخصوص باعتبار أن معطى الخصوصية المحلية – تحديدا مسار تونسة الحركة -  يفرقهم أكثر مما يجمعهم بما يحتم التعامل مع طيف الاسلام السياسى القزحى  حالة بحالة، وبالتالى فان أى دعوة للتشدد من هذا الطرف أو ذاك بغاية محاولة تغييب هذه الحركة عن المعادلة السياسية أو تهميشها لن يستفيد منها سوى التيار الممانع داخل الحركة الذى يتغذى وينتعش من راديكالية الاخر...
 وعوض الاستفادة من تجربة انغراس "حركة النهضة" فى عمق الهوامش الحضرية والريفية التى كشفتها الانتخابات البلدية الأخيرة، وقدرتها على إدارة الخلاف والاختلاف داخلها، فان تيار اليسار السلفى  لازال  مصرّ  بفعل متلازمتى  التوحّد والنهضة على التمترس داخل مربع خلافات سبعينات/  ثمانينات القرن الماضى الوهمية...
فى الختام، من المفارقات الجديرة بالبحث  فى مجال السوسيولوجيا السياسية، ان حركة النهضة اثبتت خلال السنوات الثلاث الاخيرة أنها فى طريقها لتمثل  أفضل  "لدياليكتيك هيغل" من  اليسار نفسه !

بقلم محجوب لطفي بلهادى (متخصص فى القانون والتفكير الاستراتيجى)

التعليقات

علِّق