الأخبار في قنواتنا التلفزيونية: لهذه الأسباب لم ترتق إلى المستوى المطلوب

الأخبار في قنواتنا التلفزيونية: لهذه الأسباب لم ترتق إلى المستوى المطلوب

ان المتتبع للمشهد الوطني العام يلاحظ  بجلاء تحولا على مستوى العديد من القطاعات المشمولة بالتغيير ومن أهمها مجال الإعلام التلفزيوني. ويرى البعض من الملاحظين أن نقلة نوعية مست جوهره ومضمونه في حين يقر البعض الآخر بأن هذا الواقع وعلى أهميته لم يطرأ عليه إلا القليل من ارتقاء الأداء وجودة المضمون وهي إشكالية بالإمكان طرحها أمام تزاحم التغييرات التي يشهدها القطاع على الصعيد العالمي.

 إن الارتفاع الملحوظ والمسجل    في منسوب حرية التعبير   في بلادنا  لم يغير من جودة  المادة الإخبارية التلفزيونية المتمثلة في النشرات و المواجيز   في القنوات التلفزيونية التونسية . فالمهنية وحسب ما يقره المختصون    ليست دوما في علاقة وطيدة بهذا الجانب وبهذا فان المتتبع للمضامين الإخبارية في التلفزيونات التونسية يقف على هذه الحقيقة التي تبرز بجلاء من خلال الأداء.

 فالجودة المطلوبة التي يرنو المواطن التونسي الى الوصول إليها  لم تحصل وهو طموح مشروع خصوصا وان الفضاء التلفزيوني مفتوح والمقارنات في هذا الباب أكثر من ملحة بين ما ننتجه محليا وبين ما نستهلكه من مواد إنتاجية على الصعيد  الإقليمي و العالمي سواء كانت مكتوبة او مسموعة او مرئية او حتى الكترونية التي تعرف تصاعدا على مستوى الإقبال في السنوات الأخيرة      وهذا الطموح المشروع يعود بالأساس إلى التخلص من الكثير من العراقيل والإجراءات المحدة من حرية التعبير  . وهنا علينا ان نشير الى ان الهيئات التلفزيونية العربية   التلفزيونية  تتولى بث و حسب التقرير السنوي للقنوات الفضائية العربية لاتحاد إذاعات الدول العربية لسنة 2020  1101 قناة.

لكن تبين بما لا يدعو مجالا للشك  أن تطوير المضامين ليس بالشرط الوحيد للوصول اليه  بكسب  حرية الرأي إذ أن تحسين الأداء يتوقف على  مستويات عدة مرتبطة  أساسا بدرجة المهنية التي تعكسها عوامل مختلفة منها التكوين و اعتماد حوكمة المضامين فضلا عن الإمكانات المتاحة  الأخرى المتجسمة في ضرورات التجهيزات وقيمة الاستثمارات .

وقد تجلى هذا   في المشهد التلفزي   الذي لم تعرف فيه النشرات الإخبارية و المواجيز تحسنا يذكر اذ   بقيت هذه الانتاجات بالأساس تقريبا نسخة مطابقة للأصل لما كان سائدا قبل قيام الثورة وذلك بالنسبة إلى أغلبها.

منوال سائد لا يواكب التحولات

ان المتتبع للقنوات التونسية يدرك أنها مازالت محافظة عند بثها على البناء المتمثل في تقسيم مضمونها حسب اعتماد ترتيب خطي يقوم على مبدا البناء التالي المتمثل في الاستهلال   بالأخبار الوطنية ثم العالمية فالثقافية وانتهاء بالأخبار الرياضية.

و هو منوال كان "مقبولا" في ظل النظام السابق المتميز بالشمولية    قبل قيام ثورة 14 جانفي 2011 وامر انتهجه المهنيون من منطلق الأهمية التي يوليها صاحب القرار السياسي لاعتبارات مبينة ومعلومة وحسب طبيعة النظام القائم ومستلزماته. فالهرم القائم ينطلق بالاهتمام بنشاط رئيس الدولة ثم رئيس الوزراء الى غير ذلك من ابراز نشاط مسؤولي منظومة الحكم  

على ان هذا المنوال الذي كان متبعا سابقا  لم يعد صالحا اليوم وهو امر  املته المتغيرات الوطنية اولا ثم الاقليمية والعالمية .  فهذا التمشي المتبع والذي بقي على شكله السابق ثابتا لم يعد مقبولا في ظل المتغيرات التي يشهدها القطاع على صعيد شكله ومضمونه وهنا نلتقي مع الطرح الأول   لعالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوهان الذي تنبأ بحدوث القرية العالمية من خلال التشابك والتداخل بين المنظومة الاتصالية .

أما الثانية فهي تخضع إلى منطق مهني يقول كما أشار إلى ذلك الصحف فيليب قايارفي كتابه "تقنيات الصحافة"  اي أن ترتيب الأخبار يستجيب إلى عناصر ثلاثة يقع اعتمادها حسب طبيعة الحدث: القرب والتأثيرات والأنية.

المضامين المكررة

 كما يلاحظ المشاهد أن الأخبار تعتمد من ناحية  أخرى على المستوى  السرد ي وبالخصوص إعادة ما يرد في وكالات الأنباء أو ما يمكن أن تتيحه المضامين التي توفرها المواقع على الأنترنات وأن أفضل ما يمكن أن تقدمه وسائل الإعلام  المحلية هو عبارة عن أشغال تأليفية يتم تحريرها انطلاقا مما يمكن أن يتوفر وقد يتم إثرائه ببعض المعلومات التي  يتحصل عليها الصحفي من المعنيين بالأمر عبر الهاتف. و هو أمر يتفطن إليه المشاهد بسرعة لأنه يشعر بتكرار مضامين تعرف عليها من قبل في قنوات تلفزيونية أخرى.

 وقد عرف أستاذ الإعلام الفرنسي بيار ألبار من جامعة باريس 2 و الذي كون أجيالا من الباحثين التونسيين هذا النمط من الإنتاج ب"الصحافة الجالسة" مشيرا في هذا الصدد إلى أن الأمر يتعلق بمضامين تنجز في قاعات التحرير و لا يتم استقائها من موقع الحدث أي أنها ليست لا ريبورتاجات و لا تحقيقات بل هي أعمال "مكتبية وان المطلوب حسب نفس الأستاذ من الصحفي التعاطي مع التحقيقات و الريبورتاجات و غيرها من الأجناس المشتغل عليها  تنقلا على الميدان مثل الاستجوابات أو المقابلات الصحفية وهو ما يعرف  ب"الصحافة الواقفة".

و المتتبع للنشرات الإخبارية في أغلب قنواتنا التلفزيونية يقف على مسالة  أخرى و هي أن أغلب الريبورتاجات تخص بعض أحداث دون أخرى و هي ما يسمى ب"التغطيات" التي تهتم بنقل الندوات بما فيها الصحفية والخطب و الزيارات الميدانية لرجال السياسةو تدشين المعارض إلخ...

و من نفس المنظور فإن التعاطي الروتيني هو الذي  يطغى على أغلب هذه "التغطيات" التي يقوم الصحفي من خلالها باعتماد بناء نجد فيه كثيرا من الرتابة يتم فيه تقديم بعض استجوابات الحاضرين فضلا عن سرد الحدث بطريقة جافة و أحيانا باعتماد الأسلوب "الكرونولوجي" أي تقديم الأحداث حسب تواترها و هو أسلوب لم يعد يستخدم إذ أنه يليق بالتقارير الإدارية.

 و لا تعرف هذه "التغطيات" إلا نادرا الأساليب المعتمدة في تلفزيونات أخرى مثل أسلوب "الوال سترويت جورنال فرمولا" و هو قالب يركز في البداية على مشهد معين لشد المشاهد يليه تقديم الحدث أو الظاهرة موضوع الريبورتاج قبل العودة إليه في نهاية النقل لترك أفضل الانطباع لدى المشاهد.

أين هي الشبكات الاجتماعية؟

يمكن للمتمعن في مضمون النشرات الإخبارية أن يكتشف بسهولة ومن جهة أخرى أن الجانب السردي يطغى على الجانب التحليلي الذي يقوم بالطبع بتفسير الأحداث ووضعها في إطارها مثل تقديم الرهانات وهو أمر يتطلب في عديد الحالات دعوة مجموع من الخبراء والمختصين كضيوف في مجالات متعددة للاستفادة من حديثهم.

والملاحظ هنا أنه عندما يتم ذلك فإن الأمر يكاد يقتصر على ضيوف من بلادنا مع استثناء كذلك بعض أولئك الذين ينشطون في الجهات الداخلية ويعملون مثلا في جامعات مثل جامعة سوسة وجامعة المنستير وجامعة صفاقس وجامعة المهدية وجامعة جندوبة وجامعة بنزرت وغيرها من الجامعات والبعض من هؤلاء يتمتعون  بكفاءة عالية ومعروفون بأعمالهم التي تعتمد في بحوث وطنية وأجنبية. والمسألة المذكورة لا تخص الجامعين فقط بل تتعلق بأصحاب مهن أخرى مثل الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين. مع الإشارة أن الاستعانة بنفس الخبراء يكرس بطول  المدة "الفكرة الواحدة".

   ومن المفيد كذلك الإشارة إلى أن مضامين النشرات والمواجيز التلفزيونية التونسية لا تقوم إلا نادرا بالتعرض إلى ما تأتي به الشبكات الاجتماعية و بخاصة تلك التي تصدر عن صفحات الفاعلين السياسيين و الاقتصاديين و الحركات التي ينتمون إليها و هي مضامين أصبحت قارة في القنوات التلفزيونية عموما العربية و الأجنبية خاصة أن هذه الصفحات أصبحت مصدرا هاما من الأخبار.

و من المفيد كذلك الإشارة إلى ضعف نسبة الأخبار المتخصصة مثل الأخبار الاقتصادية و العلمية و التكنولوجية التي تغيب أحيانا عن النشرات و المواجيز والتي يغلب عليها كذلك السرد الجاف ولا تستخدم بفعل  ذلك إلا نادرا الشرح و التحليل. و هي مسألة معروفة منذ مدة طويلة بسبب طبيعة هذه الأخبار التي تتطلب معرفة بمجالات اختصاصات تبدو معقدة و لا يمكن دوما الخوض في شأنها  بسبب  غياب المعرفة الدقيقة بحقل معرفي مستعصي لدى العديد  من الصحفيين إضافة إلى  غياب إطار مرجعي ييسر تناولها و تقريبها لعامة المشاهدين.

كما يمكن التذكير في هذا الإطار  بأن الصورة التلفزيونية الإخبارية الحالية  لا تعتمد في الأخبار الرسوم البيانية والجداول التي تكون عادة قادرة على تمرير المعلومات بشيء من السهولة وأنها لا توفر وبانتظام أخبارا حول مسائل عدة مثل أسعار العملة أو المنتوجات الحيوية كالذهب والفضة والحبوب والنفط التي تهم الحياة اليومية للمواطن التونسي.

هذا فضلا عن أخطاء تبدو بدائية مثل تصوير الفقرة الختامية للريبورتاج الذي يتولى الصحفي أحيانا اعداده لحدث ما من مكان لا علاقة له البتة بخلفية الخبر. ولعل البعض يعتبر ذلك جزئية ولكن الشيطان يكمن كما يقول المثل في الجزئيات.

بقلم محمد قنطاره

التعليقات

علِّق