ارتفاع الأسعار: كيف يمكن مواجهته بفاعلية

ارتفاع الأسعار: كيف يمكن مواجهته بفاعلية

تبين التجارب في الميدان الاقتصادي أنه بفضل سياسات ناجعة يمكن مكافحة ارتفاع الأسعار. ويتعلق الأمر بتشجيع المبادرة القادرة على توفير الإنتاجات اللازمة للاستجابة للطلب ومن تعديل السوق. ثم المراقبة الصارمة على مستوييي الإنتاج و التوزيع التي تعتمد في جانب هام منه على عنصر الردع الذي يمثل الطريقة الأفضل -و للأسف-  بالنسبة إلى بعض الناشطين إن أمكن تسميتهم هكذا بسبب الضرر الذي يلحقونه باقتصاد البلاد و بجيب المواطن.

خطت الدولة التونسية يوم 12 أوت 2021 خطوة جديدة في حربها على المضاربة و الاحتكار بفضل "اعلان وزارة التجارة وتنمية الصادرات عن إعداد تطبيقة إعلامية تهدف إلى متابعة عمليات التصريح بنشاط مخازن التبريد وتسجيل حركية معاملاتها اليومية بالمنتوجات المخزنة والموزعة".

و هي خطوة تنخرط في إطار الحرب المعلنة من قبل رئيس الدولة على ارتفاع الأسعار. فقد لاحظ الجميع في تونس انخفاضا في بعض المنتوجات في المغازات الكبرى وذلك استجابة لمبادرة محمودة من رئيس الجمهورية التي توجه بها إلى بعض المهن. خاصة وأن الأسعار ما أنفكت تعرف منذ سنوات ارتفاعا أثقل كاهل المواطن.

 ويلاحظ القاصي و الداني في هذا المجال أن هذا الواقع لا يوجد في عديد البلدان التي لا يعرف فيها  التضخم المالي نسبا مرتفعة  بل بالعكس ففي الأغلبية الساحقة من دول الاتحاد الأوروبي لن يتجاوز حسب التقديرات هذا التضخم أكثر من 1.3 في المائة نهاية سنة 2021. و أن دولا تعرف حتى ما يسمى ب"الانكماش الاقتصادي" بمعنى   انخفاض مستمر و ضعيف في مستوى أسعار السلع والخدمات و هو يحدث عندما ينخفض معدل التضخم إلى أقل من صفر في المائة أي أننا في وضع يكون فيه معدل التضخم سلبيا. و قد يصل الأم ر إلى أن يتسبب هذا "الانكماش" في احداث أضرار بعملية الاستثمار.

محاربة الاقتصاد الريعي

وهي حالة لها بالطبع أسبابها ومن أهمها وفرة الإنتاج مقارنة بالعرض. وهو أمر منطقي نظرا إلى أن وفرة الإنتاج تدفع عندما لا يقابلها طلب قادر على الاستجابة لهذه الوفرة إلى انخفاض في الأسعار. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن التشجيع على الإنتاج لا يمكن إلا أن يخدم سياسة الأسعار في اتجاه انخفاضها. وللدولة دور كبير في هذا المجال من خلال سن قوانين وتدابير وسياسات تمكن من تشجيع المبادرة وخلق الثروة و القضاء على كل ما من شأنه أن يعطل المبادرة بمختلف جوانبها كالتقليص من مدة الأجال و التخفيف من عدد الوثائق المطلوبة و تسخير كل ما هو بالإمكان لدفع عجلة التنمية كمثل محاربة الاقتصاد الريعي الذي يترك الباب موصودا أمام بعض الناشطين دون غيرهم و لا يخدم العدالة الواجب تكريسها في هذا المجال.

و مهام كان من أمر فان السياسات المتبعة قصد خلق مزيد من الثروة لا يمكن إلا أن تسمح بتوفير الإنتاج التي يحتاجه السوق  و أنه يمكن -و في أسوء الحالات- من الاستجابة إلى الطلب فقط و خدمة مصلحة المستهلك الذي يبقى في نهاية الأمر المستفيد الأكبر من عملية الإنتاج.

منع خزن السلع بطريقة تضر بالتدفق الطبيعي لها

و يأتي في هذا الصدد الدور الذي يمكن أن تقوم به جهات أخرى خاصة على غرار البنوك و المؤسسات المالية و الجماعات المهنية و مؤسسات التكوين و المجتمع المدني التي يمكن أن تدلوأ بدلوها للتشجيع على خلق الثروة. فالبنوك و المؤسسات المالية تقدم مثلا الموارد اللازمة لكل الناشطين بما في ذلك أولائك الذين مازالوا في خطواتهم الأولى أو التي تحمل مشاريعهم بعض المخاطر.

و الأمر ذاته بالنسبة إلى الجامعات المهنية ومؤسسات التكوين و المجتمع المدني بالنظر للإحاطة التي توفرها هذه الأخيرة بالخصوص للمستثمرين الجدد. علما أن خلق الثروة لا يمكن البتة أن يعهد لهياكل دون أخرى أو للدولة لوحدها.

و للدولة دور كبير كذلك في مراقبة تدفق الإنتاج بطريقة تسمح بتفعيل قاعدة العرض و الطلب و مكافحة كل مظاهر الفساد. وتخص عملية المراقبة أولا و بالذات كل مراحل الإنتاج حيث تعمل على منع خزن السلع بطريقة تضر بالتدفق الطبيعي لها واستخدام هذا الخزن الذي يتم أحيانا في ثلاجات معدة للغرض قصد التقليل من حجب السلع التي تتوفر في السوق والذي يساهم في إحداث المضاربة و الاحتكار.

و هو و للتذكير ما ذهبت إليه وزارة التجارة وتنمية الصادرات يوم 12 أوت 2021 بإعلانها إعداد "تطبيقة إعلامية تهدف إلى متابعة عمليات التصريح بنشاط مخازن التبريد وتسجيل حركية معاملاتها اليومية بالمنتوجات المخزنة والموزعة" سيشعر المستهلك بجدواها بعد أيام قليلة من اتخاذ هذا القرار.

تأتي بعد ذلك مسالك التوزيع التي عليها أن تخضع إلى نفس القواعد. و يمنع في هذا الإطار أن يتولى عملية التوزيع منذ مكان وجودها (المصنع أو الحقل أو المستودع) من لا يمكن له أن يقوم بها أي من غير حاملي التراخيص. فالفلاح لا يمكنه مثلا بيع خضره و غلاله على عين المكان و على الأقل بكميات كبرية للمضاربين (القشارة) الذين سيتولون تزويد أسواق موازية أي غير أسواق الجملة. و هو ما هو سائد اليوم في بعض الحالات.

رفض أي صلح أو تفاهم

و تهم المراقبة بالطبع نقل كل السلع لتفادي أن يتم ايصالها إلى أي مكان كان من قبل من ليس لديه صفة مهنية تؤهله لذلك و أن يتوفر لكل من يقوم بالتوزيع على كل الوثائق التي سنها القانون و الإجراءات المتبعة لنقل هذه السلع و الاستظهار في هذا الصدد بطبيعتها و كمياتها و سعرها بكل دقة. و إلا فإنه يتم حجزها و توظيف خطايا لم يخالف القانون. و في نفس السياق فإن البيع لا يتولاه و في مختلف مراحله (بالجملة و بنصف الجملة و بالتفصيل) إلا من له صفة مهنية للقيام بذلك و وفق ما يقتضيه القانون وطبقا للإجراءات المعمول بها.

و ما دمنا في باب الرقابة فإن كل من يخالف القانون و الإجراءات المعمول بها يخضع لجملة من الخطايا و لعقوبات تختلف حسب أهمية المخالفات. و المعروف في هذا المجال أن بعض الدول أقرت خطايا و عقوبات تبدو قاسية قد تصل إلى السجن و إنهاء النشاط وصولا إلى إعلان الإفلاس و ذلك لرغبتها في أن يتم ردع المخالفين بطريقة فاعلة. و بكل صفة فإن جملة الخطايا و العقوبات أحدثت بغاية أن لا يقدم المخالف على ارتكاب المخالفات من جديد. كما أن من أساليب الردع رفض أي صلح أو تفاهم بين مصالح المراقبة  و مقترفي التجاوزات.

و تمثل الصرامة في تطبيق القانون والعمل على عدم التراخي في ذلك عنصرا أساسيا. و قد أبرزت التجارب ذلك في بعض دول العالم التي لا تسمح بأي تجاوز ممكن في العمليات الاقتصادية مثل سانغافورا  و التي بنت كل منظومتها الإجرائية على ما يسمى "صفر تسامح".

و يبقي الردع الطريقة الأفضل -و للأسف-  بالنسبة إلى بعض الناشطين إن أمكن تسميتهم هكذا بسبب الضرر الذي يلحقونه باقتصاد البلاد و بجيب المواطن. فارتفاع الأسعار يضر بالاقتصاد لأنه لا يسلم منه كذلك المنتج الذي ترتفع كلفة سلعه و خدماته. كما أن هذا الارتفاع قادر في اقتصاد مفتوح أن يؤثر سلبا على الإنتاج الوطني الذي تصبح في حالات عدة أسعاره  أغلى من المنتوج المستورد فضلا عن أنه يتسبب في تقليص حجم الاستهلاك و بالضرورة حجم الإنتاج والاستثمار.

بقلم : محمد قنطاره

 

التعليقات

علِّق