ارتفاع الأسعار: كيف تتحمل الدولة بدورها جانبا من المسؤولية
الدولة لا تتولى بطبيعة الحال الاحتكار ولا تعمل على مغالطة المستهلك والإساءة إلى مصلحته ولكن هذا لا يعني البتة أنها لا تتسبب في ارتفاع الأسعار وذلك بالنظر إلى مجالات تدخلها إن صح التعبير كتاجر وكفاعل اقتصادي بصفة أعم. والأمر لا يتوقف عند هذا المستوى. فالتركيز إذن على القطاع الخاص وشيطنته في المجال لا ينفع.
ينصب اهتمام المواطن التونسي هذه الأيام على الاحتكار وتأثيراته السلبية على جيبه وذلك بسب ما تقدمه وسائل الاعلام خاصة من أخبار في علاقة مع زيارات رئيس الجمهورية لبعض الفضاءات التي يتم داخلها خزن بعض المواد قصد ترويجها بأساليب غير قانونية.
وتتوجه أصبع الاتهام بالمناسبة إلى الفاعلين الاقتصاديين المنتمين إلى القطاع الخاص في مقاربة جزئية لا تأخذ في الاعتبار المشهد الاقتصادي بأكمله الذي مازال القطاع العام بمختلف هياكله يحتل صلبه منزلة هامة (قرابة 40 بالمائة من النسيج الاقتصادي حسب بعض التقديرات) ولا تأخذ كذلك في الاعتبار الدور الذي تلعبه الدولة من هذا المنطلق في تحديد الأسعار وإذن في تحديدها.
الشيء الذي يفيد أنه لا يجوز من هذه المقاربة الشاملة للمشهد الاقتصادي التونسي أن نشيطن أكثر من اللزوم كما يقال الفاعلين الخواص. وأن هذه الشيطنة تؤدي حتما إلى عزوف رجال الأعمال عن الاستثمار وخلق الثروة. وهو موضوع سنعود إليه في كتابات قادمة إن شاء الله.
هيمنة الدولة على قطاعات اقتصادية حيوية
الدولة لا تتولى بطبيعة الحال الاحتكار ولا تعمل على مغالطة المستهلك والإساءة إلى مصلحته ولكن هذا لا يعني البتة أنها لا تتسبب في ارتفاع في الأسعار وذلك نظرا لتدخلها إن صح التعبير كتاجر. ولا ننسى من هذه الزاوية بالذات أن شركات تابعة للدولة مازالت تأتي في المراتب الأولى في قائمة المؤسسات التونسية من جهة رقم معاملاتها.
البعض منها يلعب دورا حويا وأكثر من ذلك فهو يهيمن في جانب كبير على قطاعات مثل قطاع التبغ والوقيد وقطاع الكهرباء والغاز وقطاع توزيع المياه وقطاع تكرير النفط ويتحكم في سعر مواد تحتل نصيب الأسد في استهلاكه على مرور السنة.
يعتبر هذا هو العنصر الأول من العناصر المتعلقة بارتفاع الأسعار التي تتسبب فيه الدولة والتي لا ينظر إليه دائما كما يتوجب الأمر. والحال أن المواطن يتذمر يوميا من ارتفاع أسعار مواد تهيمن على إنتاجها وتوزيعها الدولة كم أسلفنا الذكر.
وقد يجوز القول إن الدولة أجبرت بالفعل في حالات عديدة على رفع أسعار سلع وخدمات توفرها للمواطن وذلك لأسباب عدة مثل ارتفاع نفقاتها وضائقتها المالية أو كذلك بسب سياساتها التي تطمح إلى التقليص من حجم الدعم الذي أجبرت عليه في فترة ما.
ارتفاع للضغط الجبائي
العنصر الثاني الذي لابد من ذكره في هذا الباب يتعلق بارتفاع بعض مكونات الجباية العمومية الذي يجبر التجار بفعلها على الرفع من اسعارهم. يذكر مثلا أن الترفيع في نسب الأداء على القيمة المضافة منذ سنة 2018 بنقطة والمرور من 6 بالمائة إلى 7 بالمائة ومن 12 بالمائة إلى 13 بالمائة وأخيرا من 18 بالمائة إلى 19 بالمائة كان له مفعوله على أسعار بعض السلع والخدمات. علما أن الأداء على القيمة المضافة كما يعلمه الجميع يتحمله المستهلك أكان منتجا لسلع وخدمات أو مواطنا عاديا.
كما يجدر الحديث هنا على الارتفاع الذي ما انفك يعرفه الضغط الجبائي في بلادنا. بمعنى النسبة المئوية لجملة مكونات الجباية (ضرائب وأداءات وإتاوات بالأساس) مقارنة بالناتج الداخلي الخام. فقد ارتفعت هذه النسبة لتصل إلى 24.4 في المائة نهاية سنة 2020 بعد أن كانت في حدود 23.8 في المائة سنة 2018 و20,8 في المائة سنة 2016.
وهو ارتفاع مضر بالاقتصاد إذ أنه يؤدي إلى تراجع نسب الاستثمار ويمس القدرة الشرائية للمواطن فضلا عن أنه لا يشجع على الاستثمار. علما أن الضغط الجبائي التونسي يعتبر حسب بعض الخبراء واحدا من أعلى المعدلات في القارة الإفريقية.
700 عون لمراقبة الأسعار
علما كذلك أن هذا الارتفاع قد يبرر إن تتوفر للمواطن مقابله خدمات لائقة في عديد المجالات كالتعليم والصحة والنقل. وهو بالطبع شيء لا يمكن التأكيد عليه في بلادنا. فعلى سبيل المثال أنفقت الدولة التونسية سنة 2017 وفي المتوسط ما يقارب 392 دينارا للتكفل بمصاريف صحة المواطن في حين أن المعدل العالمي يأتي في حدود 2087 دينارا.
المسألة الثالثة في مجال المسؤولية التي تتحملها الدولة في باب ارتفاع الأسعار يمكن أن يكمن في ضعف تدخلاتها لمساعدة بعض الفئات مثل الفلاحيين على تجاوز صعوبات تحول دون إيصال منتوجاتهم إلى أسواق الجملة وتركهم عرضة للاحتكار.
وذلك بعدم توفر مرافق مثل المسالك والطرقات في المناطق الزراعية وغياب تعاضديات وشركات تتولى نقل السلع الفلاحية استعانة بعربات يتم اقتناؤها للغرض. ولابد من الاعتراف أن الفلاح يتحمل بسبب ضعف المبادرة بالأساس مسؤولية ولكن المسؤولية تتحملها في جانب على الأقل الدولة.
كما تجدر الإشارة من ناحية أخرى إلى أن ضعف أداء المصالح المكلفة بمكافحة الاحتكار والمضاربة في خصوص القيام بعملها على أحسن وجه يساهم بدوره في ارتفاع الأسعار. فلا يغيب على أحد أن عدد الأعوان المكلفون بمراقبة الأسعار والتابعين لوزارة التجارة وباعتراف مصالح هذا الهيكل لا يكفي لتغطية كل تراب الجمهورية. فقد صرح مسؤول سامي في وزارة التجارة سنة 2018 أن الموارد البشرية التي تتولى هذه المراقبة متواضعة وأن الوزارة لا تتوفر إلا على 700 عون فقط يعملون في كل البلاد.
محمد قنطاره
التعليقات
علِّق