البيروقراطية التونسية بين ثقل الماضي ورهانات الرقمنة

شدني تصريح عادل شواري، المدير العام للسجل الوطني للمؤسسات، لجوهرة ا ف م حين قال إن "أربعة موظفين يخدموا في تعريف بالإمضاء بمعلوم لا يتجاوز 500 مليم"، ليس مجرّد ملاحظة عابرة، بل مرآة صادقة تعكس عمق الأزمة الإدارية التي تعيشها تونس منذ عقود.
هذه الجملة تختزل وضعية بيروقراطية مثقلة بالرتابة، تستهلك الموارد البشرية والمالية في إجراءات وُلدت في زمن آخر، ولم تتجدد رغم التحولات العالمية. إرث إداري متآكل الإدارة التونسية مازالت مشدودة إلى نمط عمل تقليدي قائم على الأوراق، الأختام، والصفوف الطويلة. المواطن الذي يريد أبسط خدمة يجد نفسه أمام سلسلة من الإمضاءات، النسخ المطابقة للأصل، والشهادات التي لا تضيف شيئاً لقيمة الخدمة بقدر ما تستهلك وقته وطاقته. هنا يبرز مشهد أربعة موظفين ينشغلون طوال اليوم بختم الأوراق، بينما القيمة الاقتصادية الحقيقية تكاد تكون منعدمة.
التكلفة الخفية للبيروقراطية ما قد يبدو إجراءً بسيطًا يخفي وراءه كلفة باهظة. فالدولة تدفع رواتب موظفين، تُخصص مبانٍ وتجهيزات، وتستنزف وقت مواطنين، كل ذلك من أجل 500 مليم. هذه المفارقة تفضح هشاشة منوال إداري لم يعد ينسجم مع واقع اقتصادي يبحث عن النجاعة والسرعة. في حين أن نفس الموارد لو وُجهت نحو خدمات رقمية متطورة لوفرت مداخيل أكبر، ورضا مواطن أوفر، وصورة أوضح عن دولة حديثة.
معركة العقلية قبل التكنولوجيا تونس شرعت منذ سنوات في مشروع رقمنة الإدارة، لكن العائق الأكبر لم يكن أبداً تقنياً، بل عقلياً وثقافياً. البيروقراطية ليست مجرد أوراق وأختام، بل منظومة كاملة تستمد شرعيتها من تعقيد الإجراءات، ومن إيهام المواطن أن حاجته لا تُقضى إلا عبر "الشباك".
لذلك، فإن تجاوزها يتطلب إرادة سياسية جريئة تُعيد تعريف دور الإدارة: من سلطة تراقب وتُعطّل، إلى خدمة تُيسر وتُنجز. نحو إدارة خفيفة وذكية التجارب العالمية تُثبت أن الحل يكمن في الإمضاء الإلكتروني، وفي بناء منصات موحدة تُغني المواطن عن التنقل بين الإدارات. نجاح هذه التجارب لم يكن فقط في تسريع الخدمات، بل في إعادة الثقة بين المواطن والدولة. بالنسبة لتونس، فإن مثل هذا التحول لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية، لأن الاقتصاد لا يحتمل المزيد من النزيف، والمواطن لم يعد يقبل بعذر "الإجراءات المعقدة".
لابد من التغيير تصريح عادل شواري يجب أن يُقرأ كجرس إنذار لا كجملة عابرة. إن استمرار أربعة موظفين في خدمة لا تساوي 500 مليم هو صورة عن دولة عالقة في ماضٍ لم يعد صالحًا للحاضر. وحدها الشجاعة في الإصلاح، والإيمان بأن الإدارة وُجدت لخدمة المواطن لا العكس، كفيلة بتحرير تونس من قبضة البيروقراطية والانطلاق نحو دولة حديثة، شفافة وناجعة.
وليد حشيشة
التعليقات
علِّق