كتلة الأجور في الوظيفة العمومية: لماذا يتوجب تنسيب خطاب الخبراء

كتلة الأجور في الوظيفة العمومية: لماذا يتوجب تنسيب خطاب الخبراء

هل تشغل الوظيفة العمومية موظفين أكثر مما يلزمها و هل أن كتلة الأجور تمثل بحق عبئا حقيقيا؟ إن الموضوع معقد و الإجابةعنه يتطلب كثيرا من التدقيق لكي لا يصبح الخطاب دغمائيا. و قد يكون من الأفضل أن تطرح المسألة من زاوية مختلفة تماما.

تتناقل أطروحات بعض الخبراء وكذلك كبار المسؤولين في مثل هذه الأيام من كل سنة و بمناسبة مناقشة ميزانية الدولة موضوع كتلة الأجور و العبء الذي يشكله طبعا بالنسبة إلى المالية العمومية.و يفيد البعض في هذا السياق بأنه يمكن للإدارة التونسية أن تشتغل بأقل مما يقارب عن ال700 000موظف الذين يعملون حاليا خاصة و أنها كانت عند قيام ثورة 14 جانفي 2011 تتوفر على حوالي نصفالموظفين الذين يشغلون اليوم بالإدارة (444 000).

و هو خطاب يعتبر اليوم حقيقة مؤكدة تستخدم بالطبع لتبرير انتهاج سياسات تدعو إلى التخفيض من عدد الموظفين. و قد حصل ذلك بالفعل منذ سنتين تقريبا حين قدمت الدولة حوافز لبعض الموظفين قصدالمغادرة الاختيارية. غير أن هذا الخطاب يتطلب كثيرا من التعديل أو على الأقل من التنسيب لأنه كما يقول المثل الفرنسي بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة.

و لا شك بالطبع أن كتلة الأجور تشكل ما يقارب 50 بالمائة من الميزانية و أنها تمثل من هذا المنظور عائقا كبيرا يكبل الدولة التي لا يترك لها مجالا رحبا لإنجازمشاريع التنمية التي تحتاج و التي تتطلب موارد كبيرة قصد دفع عجلة النمو و انتداب عدد من العاطلين عن العمل.

ومن المؤكد أن السنوات التي تلت الثورة عرفت انتداب ما لا يقل عن 200 ألف موظف وهذه الانتدابيات التي لم تكن دائما تراعي الضوابط اللازمة من حيث الكفاءة كانت في قسط منها عشوائية. إلا أن الانسياق وراء بعض الأفكار الجزمية لا يمكن أن يقبل بسهولة. والسؤال الذي يمكن أن يطرح هنا ودون تبرير الانتدابات التي تمت بعد 14 جانفي 2011 هو ألم يكن جانبا على الأقل من التوظيف الذي وقع قبل قيام الثورة لغايات اجتماعية؟ وإذن كانعشوائيا؟

تهرم الأعوان

هذا ومن المؤكد أن عددموظفي الدولة لا يمكن أن يشكل بأي صفة من الصفات استثناء تونسيا. بل بالعكس. فهذا العدد هو أقل مما هو موجود في كثير من بلدان العالم. فمعدل الموظفين أتي في بلادنا سنة 2017 في حدود 56 موظف  بالنسبة إلى  كل 1000  ساكن في حين أنه يصل إلى  160 في النرويج و 143 في الدنمارك و 80 في بريطانيا العظمى و 70 في الولايات المتحدة الأمريكية.و  هي دول ليبرالية من المنظور الاقتصادي.

ونشير في هذا الصدد إلى أن دراسة أجريت من قبل المعهد الأعلى للإحصاء منذ ثلاث سنوات تبين وجود تهرم واضح لأعوان الوظيفة العمومية إذ أن قرابة 23 بالمائة من هؤلاء تجاوزت أعمارهم ال50سنة. الشيء الذي يعني أن الوظيفة العمومية وفي ظل سياسة غياب الانتدبات الحاصل اليوم ستفقد في السنوات القليلة القادمة عددا هاما من أعوانها.

وينبغي التأكيد كذلك في هذا السياق على أن تقديم مثل هذهالأرقام وخاصة مقارنة الواقع التونسي بغيره لا يقدم الإضافة. فمن يقوم بالمقارنات كما يقول مثلا فرنسيا أخر ليس دوما على حق كما أن المقارنات كما يعلم الجميع تتم بخصوص سياقات مختلفة وبالنسبة إلى أوضاع لا تتشابه في كل الحالات من جهة أنها لا تتعلق بنفس التجارب ونفس مناويل التنمية ونفس النظم الاقتصادية و نفس السياسات الاجتماعية.

إن الإدارة التونسية التي تنفذ في أغلب أجزائها سياسات مبنية على ما يعرف ب "إدارة الموظفين" (الإكتفاء بأنشطة على غرار الانتدابات وإعداد الأجور ومراقبة الحضور والغيابات وكذلك تنظيم العطلوما لف لفهم) ولا تمارس إلا نادرا إذن ما يسمى ب "إدارة الموارد البشرية" لا يمكنها بسهولة أن تضبط و بدقة عدد الموظفين الواجب عليها انتدابهم بناء على مقاربات تستشرف فيها حاجياتها أمام المتغيرات التي تحصل و الكفاءات اللازمة لها وفقا لنسق التطورات الحاصلة وكذلك ضبط الفئات العمرية التي يتوجب توفيرها و غير ذلك من المستلزمات الجاري بها العمل في دول متقدمة. الشيء الذي يعني أن التقديرات الحاصلة ليست دقيقة بالمرة.

25 مليار دينار

ولعله من المفيد هنا القول إنه قد يكون من الأصح أن تحرص الحكومات على إيجاد حلول جذرية للنقص الكبير الحاصل في موارد الجباية. وهو تمشي قد ينهي تماما الحديث عن كتلة الأجور وحجم الموظفين.ومن الأفضل النظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة تماما بالرغم من العلاقة المباشرة بمحور إهتمامنا.

فالموارد الجبائية التي تتوفر عليها الدولة سنويا هي أقل مما هو ممكن الحصول عليه. الشيء الذي يعني أن لو تمكنت الدولة من الحصول على الموارد الجبائية اللازمة فإن موضوع كتلة الأجور سوف لن تطرح على الأقل بالحدة التي هي عليها اليوم. إذ أن عديد الأرقام تؤكد هنا خطورة التهرب الجبائي. وهو تهرب قدره مصدر رسمي سنة 2018 بما يقارب ال25 مليار دينار. أي ما يعادل نصف ميزانية الدولة.

وعلى هذا المستوى فإن تفاقم ظاهرة القطاع الموازي وعدم قدرة كل الحكومات بدون استثناء منذ 2011على تنظيم هذا القطاع الذي يقدر حسب عديد المصادر بين 35 و50 بالمائة من الناتج الداخلي الخام لم يسهل على الدولة الحصول على الموارد اللازمة مما أجبرها على اللجوء إلى الاقتراض لتسديد عجز الميزانية.

عدم تقديم تصريح لمصالح الجباية

وللإشارة كذلك فإنه حسب معطيات قدمتها مؤخرا منظمة البوصلة في دراسة للجباية 11 بالمائة من المؤسسات الاقتصادية تصرح لمصالح الجباية أنها لم تحقق أرباحا وأن 46 بالمائة من المؤسسات لا تقدم بالمرة تصريحا جبائيا.

وتفيد نفس المنظمة بأنه من الأسباب التي تفسر عدم المتابعة اللازمة لمصالح الجباية لكل هؤلاء وبالرجوع إلى موضوعنا هو النقص الذي تعرفه هذه الأخيرة في خصوص عدد أعوانها المتوفرين. إذ أنها لا توظف إلاحوالي 1700 مراقب جبائي في حين أن عملها السليم يتطلب ما يقارب 7000 موظف من هذا الصنف.

الشأن نفسه يمكن أن يذكر في خصوص عدد مراقبي الأسعار. فالعديد من المعطيات الميدانية تؤكد أن ما هو متوفر من المراقبين غير كافي للوقوف على الاختلالات الواقعة في الأسواقوعلى ردعها.

والمعلوم في هذا الصدد أن الحلول التي تطرحها أحيانا الإدارة لتبرير عدم قيامها بانتدابات جديدة مثل ما يسمى بإعادة توزيع الأعوان لا يمكن أن يقنعولا يحمل دائما جدوى. فعملية إعادة توزيع الأعوان لا ترفق دوما بتوفير التجهيزات والتطبيقات المعلوماتية وكذلك  المعدات مثل أسطول للسيارات والتي يتطلبها العمل فضلا عن رفض بعض الموظفين الأمر. كما أن تكوينهم لا يتم في الغالب على أسس سليمة.

فما هو سائد هو تكوين هؤلاء الأعوان على عين المكان و من قبل جهات لا تتوفرفي أغلب الحالات بدورها على تكوين أساسي كما أنها لم تحظى برسكلة مستمرة تمكنها من أخر المستجدات في المجال الذي تنشط فيه زيادة على افتقادها لبعض المهارات التي أصبحت أساسية اليوم مثل فنون التحرير و الخطاب و التفاوض.

محمد قنطاره

 

التعليقات

علِّق