القنوات التلفزيونية الخاصة في تونس: لماذا ينطبق عليها المثل "حط ساق تغرق الأخرى" !

القنوات التلفزيونية الخاصة في تونس:  لماذا ينطبق عليها المثل "حط ساق تغرق الأخرى" !

إن المتتبع للشأن التلفزيوني التونسي لا يمكنه إلا أن يلحظ هشاشة الوضعية المالية لأغلبية القنوات التلفزيونية. و التي يمكن أن تعود أسبابها في جانب كبير إلى ضيق السوق التونسية في ظل عدم توفق القنوات إلى إيجاد موارد أخرى دون الإشهار.

تقول أستاذة اقتصاد الإعلام بجامعة باريس 2 نادين توسان ديمولان في كتابها "اقتصاد الاعلام" الصادر بفرنسا سنة 1978 و الذي يبقى إلى اليوم مرجعا في المجال أن "الألم يكون دوما أكبر عندما تغلق مؤسسة إعلامية أبوابها لأن هذا الإغلاق يعنى زوال نهج فكري بأكمله فكل مؤسسة إعلامية تحمل معها تصورات تثري الحوار في الدول الديمقراطية حول عديد المسائل داخل المجتمع".

ولا يمكن إلا أن نستحضر هذه المقولة و نحن نتابع بالطبع   قرار "إلغاء اتفاقية إجازة إحداث واستغلال القناة التلفزيونية الخاصة "المتوسط (أم تونيزيا)" " من قبل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري "نظرا لاستمرار انقطاع القناة عن البث لأكثر من تسعين يوما دون بيان أسباب تواصل الانقطاع"  حسب البلاغ الصادر عن الهايكا يوم 15 جوان 2021.

و هو أمر لا يمكن أن نمر عليه مر الكرام خاصة و أن "أم نونيزيا" لم تكن - و لن تكون-  القناة الأولى التي تتعرض لصعوبات لم تتوصل إلى مجابهتها. علما أن الجائحة لا يمكن بالمرة أن تفسر لوحدها هذه الصعوبات التي قد تجبر قنوات أخرى على أن تتوقف عن العمل.

و من الأسباب التي يمكن أن تفسر هذا الواقع المنافسة الشديدة التي يعيشها قطاع التلفزيون. و ذلك بالطبع بسبب كثرة القنوات التي يستقبلها المتفرج التونسي و التي يختلط فيها المحلي بالإقليمي و بالجهوي. فالتعداد الذي تقوم به منذ سنوات مصالح منظمة اتحاد إذاعات الدول العربية يفيد على سبيل الذكر و في أخر إحصاء للمشهد التلفزيوني العربي أن عدد القنوات التلفزيونية الفضائية العربية يأتي في حدود 1101 قناة.

وهي قنوات يمكن للتونسي أن يتابع الأغلبية الساحقة منها (98 في المائة منها حسب مصادرنا). تبث هذه القنوات على أكثر من قمر اصطناعي يمكن التقاطه في بلادنا: النايلسات وأسترا والعربسات بالأساس. تتوزع هذه القنوات بين ما هو عمومي وما هو خاص وبين قنوات جامعة ومتخصصة. الشيء الذي يعني أن المتفرج التونسي لا يمكن موضوعيا وبفضل هذا التنوع إلا أن يجد ضالته. وهذا فضلا بالطبع عن قنوات أوروبية أخرى لها كذلك جمهورها.

ميزانية ب150 مليون دولار

ولا فائدة من التأكيد هنا على أن القنوات التونسية لا يمكنها دوما منافسة قنوات تتوفر في جانب منها على إمكانيات أكبر و حرفية أعلى و ذلك إلى جانب تجربة أعمق في إدارة المحتويات واستخدام أدق لكل ما أتت به اليوم روح العصر من حوكمة رشيدة و جودة و ابتكار. وبخاصة تلك القنوات الموجودة في بلدان تعتمد أليات المنظومة الأنقلوسكسونية المعروفة بتفوقها.

فعلى سبيل المثال انطلقت قناة "الجزيرة" القطرية سنة 1996 –أي منذ أكثر من عشرين سنة -  بميزانية تأتي في حدود 150 مليون دولارا (قرابة 414 دينار تونسي). والحديث يخص قناة الجزيرة الأصلية في بداياتها بمعنى أن المبلغ لا يأخذ في الاعتبار مختلف القنوات التي أحدثت بعد هذا التاريخ مثل قنوات "بين سبورت الرياضة" و كذلك الأمر بالنسبة إلى قناتي "الجزيرة مباشر" و "الجزيرة الناطقة باللغة الإنقليزية". علما أن هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يقدر حجمه إلا في ظروف زمن ولى و مضى يفوق اليوم بخمس مرات الميزانية الحالية  للتلفزيون العمومي التونسي.

علما أن من يتابع القنوات العربية الموجودة خارج الحدود التونسية يلاحظ بجلاء أنها كثيرا ما تعتمد قاعدة القرب وتتطرق إذن إلى مواضيع محلية تونسية وهو ما يجعلها تتنافس في مجال قد يعتبر اختصاصا للقنوات المحلية التونسية. وذلك في برامج عدة. في الأخبار السياسية بالطبع ولكن كذلك في الرياضة والاقتصاد والثقافة إلخ...وهي تفتح إذن وبانتظام نوافذ على ما يجري في تونس.

وفي  معرض الحديث عن المنافسة فإن القاصي والداني يعي أن قنواتنا لا تقدر دوما على منافسة قنوات تتبع دولا عربية نفطية تتوفر على مؤسسات استثمارية كبيرة ينشط البعض منها في مراكز مالية عالمية كبرى و تمتلك مساهمات حتى في شركات متعددة الجنسيات و هو الحال بالنسبة إلى بعض القنوات الخليجية.

و في نفس الباب أي باب لمنافسة يجدر التأكيد على أن هذه الأخيرة لا يقدر على مسايرة نموها إلا من يمكنه تحمل تكاليف بث و إنتاج أصبحت باهضه جدا. ففي باب البث لابد من التذكير بأن الكلفة تكون مرتفعة جدا خاصة إذا تم اعتماد البث الفضائي و الأرضي في نفس الوقت و البث على أكثر من قمر اصطناعي       و على باقات إقليمية أو دولية وإن تم كذلك اختيار أساليب توزيع إشارتها على مسالك أخرى مثل البث عبر النترنات و الكابل. مع الإشارة إلى أن التكاليف التي تقدر بملايين الدنانير لا تخص بالطبع البث العادي للبرامج و لكن و كذلك كراء الأقمار الاصطناعية كلما اقتضت الحاجة كالرغبة في محاورة ضيف من الخارج.

عدم استرجاع المستحقات

وقد أكد التقرير الذي أعدته سنة 2017 دائرة المحاسبات والخاص بالفترة الفاصلة بين 2010 و2014 بخصوص الديوان الوطني للإرسال السمعي والبصري أن " مستحقات الديون المتخلدة  بذمة المؤسسات العمومية والخاصة بلغت ما يناهز 9 مليون دينار منها حوالي 6 مليون دينار بذمة مؤسسة التلفزة التونسية ليعرف الديوان صعوبات مالية تمثلت في ضعف السيولة نتيجة عدم استرجاع مستحقاته إضافة إلى التأخير المتكرر في فتح الاعتمادات".

و تبقى كلفة البرامج المنتجة داخل المؤسسات التلفزيونية التونسية أو المقتناة من خارجها كذلك مكلفة إذ أنها تتطلب موارد هامة لتغطية التجهيزات المستخدمة و دفع مستحقات العاملين في كل الإنتاجات بمختلف أصنافها (برامج ترفيهية و إخبارية و ووثائقيات و مسلسلات إلخ...): صحافيون و كتاب سيناريو و مساعدو إنتاج و مصممو الديكور و ممثلون و مخرجون و تكاليف السفر و الإقامة و غيرها. خاصة وأن  هذا المجال يعرف منذ سنوات عدة ممارسات خطيرة مثل الاحتكار بسب البث الحصري هذا فضلا عن الاستعانة بمبدعين و نجوم تدفع إليهم مبالغ طائلة.

 و هو ما يميز مثلا حقوق بث المباريات الرياضية في العالم و بعض الأحداث الكبرى مثل المهرجانات   و  العروض الموسيقية و المسلسلات. وهو ما يفسر اعتماد قنواتنا التلفزيونية المفرط على البرامج الحوارية و برامج "التولك شو" دون غيرها و التي لا تتطلب استثمارات كبيرة بصفتها تنجز في الأستوديو و لا  نجد ضمن تكاليف إنتاجها لا تنقل و لا صناعة ديكورات و لا أجور ممثلين و لا الاستعانة بأجهزة مؤثرات خاصة إلخ...و لذلك يطلق عليها  البعض إسم  برامج "الو كوست" بمعنى أنها لا تحمل  كلفة كبيرة.

سؤال محبط و محرج

و لنتوقف هنا للتأكيد على أن السوق التونسية تبقى ضيقة فالبرامج التلفزيونية تتوجه بالأساس إلى جمهور لا يفوق 13 مليون متفرج باحتساب المواطنين التونسيين المقيمين بالخارج.   كما أنها سوق توفر عائدات إشهارية دون المأمول (لم تتجاوز هذه الموارد 142.2 مليون دينار سنة 2020 حسب مكتب سيقما كونساي). و هو مبلغ لا يأخذ في الاعتبار التخفيضات التي تمنح للمعلنين. و  يبقى السؤال الذي يبدو محرجا و أحيانا محبطا و لكنه قابل للطرح: هل يفوق موضوعيا عدد قنواتنا التلفزيونية حاجيات و طاقة استيعاب المشهد التلفزيوني التونسي؟

وتجدر الإشارة هنا إلى أن قنواتنا التلفزيونية لم تتوفق في أغلبها و بالحجم المطلوب على غرار بعض نظيراتها في الخارج في جلب موارد أخرى دون الإشهار لتمويل برامجها. ويلاحظ في هذا المجال أنها تبالغ في استخدام هذا الإشهار التي أصبحت تخصص إليه وعلى مدار الساعة برامج تسويقية تبث لفترات طويلة.

و من أهم هذه الموارد العائدات المتأتية من مداخيل الهاتف بفضل التفاعلية التي يتم اعتمادها في عديد البرامج مثل المسابقات و كذلك الموارد المتأتية من التطبيقات المتاحة على الأنترنات و من مواقعها على الشبكة العنكبوتية    و كذلك بيع برامجها لقنوات تلفزيونية أخرى و تنظيم دورات تدريبية و منتديات عدة تدر عليها بعض من مواردها.

وهو ما يجعلها وبالنسبة خاصة إلى القنوات الخاصة سجينة مورد واحد يتأثر بالطبع بحالة الاقتصاد الوطني. فالإشهار يعتبر محررا تقاس بفضله حركية الاقتصاد.

بقلم: محمد قنطاره

التعليقات

علِّق