عودة " البوليس " إلى عاداته القديمة : هل هي تصرّفات فردية أم سياسة عامّة ومدروسة ؟

قبل كلّ شيء لنتّفق جميعا على أننا كنّا من الأوائل الذين نادوا بعد الثورة إلى ضرورة أن تتغير العلاقة المهترئة بين المواطن ورجل الأمن وأن تعمل كافة الأطراف على بناء علاقة أساسها الثقة المتبادلة والإحترام المتبادل وسعي كل طرف إلى احترام القانون وتطبيقه على الجميع دون تمييز أو استثناء .
انتكاس أم ماذا ؟
وفي الوقت الذي سجّلنا فيه بعض التحسّن في تلك العلاقة وظننّا أننا نسير على المنهج القويم من أجل إرساء أمن جمهوري يخدم القانون وعلويّته ولا يدين بالولاء إلا للوطن والقانون والقسم الذي أدّاه شهدت العلاقة مرة أخرى انتكاسة أخرى بدأت " بشائرها " تظهر منذ مدّة وبأشكال مختلفة والأمثلة عديدة نذكر منها التدخّل بعنف لفض اعتصامات للمعلمين بكل من صفاقس وسيدي بوزيد وقابس ... وما حدث في بعض الملاعب الرياضية من تدخّلات أمنية عنيفة لا مبرّر لها ... وما طال الصحافيين من اعتداءات بعضها كان بشعا ولا شيء يبرره على الإطلاق ... أو ما حدث يومي الثلاثاء والإربعاء الماضيين من اعتداءات على محتجّين سلميا على قانون المصالحة وعلى الفلاحين الذين عبّروا بطريقة سلمية أيضا عن عدم رضاهم عن الوضع الذي باتوا فيه يعيشون ...ولا ننسى أيضا حادثة الإعتداء على الديبلوماسي السينغالي الذي كادت تحدث بسببه أزمة ديبلوماسية بين تونس والسينغال التي تعتبر من أقرب الدول الصديقة على مرّ التاريخ .
أحداث أخرى " في الخفاء "
نعرف جميعا أن الكثير من التجاوزات التي اقترفت في حق مواطنين مرّت في الخفاء بالرغم من أن وزارة الداخلية كانت تقول في كل مرّة إنها " فتحت تحقيقا في الغرض " . وبما أنه وإلى اليوم لم نسمع بنتيجة أي تحقيق من تلك التحقيقات فقد أصبح الناس على قناعة بأنه إذا قيل لهم إنه تم فتح تحقيق فمعنى ذلك " إنسوا الحكاية نهائيا " . كما تحدّثت منظمات من المجتمع المدني كثيرا عن حالات تعذيب داخل السجون أو مراكز الإيقاف ولم نسمع إلى اليوم أيضا موقفا رسميا من وزارة الداخلية تنفي فيه أو تؤكّد ما يقال . وهذا طبعا يفتح أبواب التأويلات على مصراعيها بما أن الوضوح غائب تماما أو يكاد . وقد جدّت مؤخرا حادثة أليمة جدّا مرّت في الخفاء وربّما أراد لها البعض أن تمرّ في الخفاء . ففي اليوم الذي دار فيه لقاء الدور النهائي لكأس تونس جدّ حادث مرور حيث دهست إحدى سيارات موكب رسمي ( سيارات مراسم ) امرأة مسنّة وشابّا أراد أن يساعدها على عبور الطريق فماتا على عين المكان دون أن تثير هذه الحادثة أي ردّ فعل لدى وسائل الإعلام التونسية وخاصة منها العمومية وهي كثيرة في تونس .
استنكار وبعد ؟
إزاء عودة بعض الممارسات القديمة التي كانت سببا من أسباب ثورة الشعب التونسي أصدرت بعض الأحزاب والمنظمات بعض البيانات إما للإستنكار وإما للتنديد . وعلى سبيل المثال فقد اعتبر الحزب الجمهوري أن ما يحدث " توظيف لحالة الطوارئ لقمع الإحتجاجات الإحتماعية السلمية وقد بات هذا حقيقة سياسية تهدّد حقّا أساسيا كفله الدستور ..." . وندد حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد بما حصل وقال إنه مؤشّر لعودة منظومة الإستبداد واستعمال قوات الأمن أداة لضرب حق التظاهر السلمي الذي يضمنه الدستور. أما الجبهة الشعبية فقد وصفت التدخلات الأمنية بأنه " عنف وحشي وانحراف خطير بالبلاد نحو القمع والإستبداد والإلتفاف على هامش الحريات التي حققتها الثورة بذريعة حالة الطوارئ . ".وأما اتحاد الشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان فقد أصدرا أيضا بيانين رفضا فيهما التعامل الأمني العنيف مع التحركات الإجتماعية السلميّة ...
تعامل بمكيالين
تتساءل الكثير من الأطراف وفي استغراب أيضا : لماذا أصبحت بعض وسائل الإعلام المعروفة تلوذ بالصمت الغريب إزاء ما يحدث وهي التي كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها إزاء أحداث أقلّ حجما وقعت زمن حكم " الترويكا " ؟. هل هو منطق الكيل بمكيالين أم منطق التواطؤ الذي يفرض غض الطرف عمّا يحدث من تجاوزات ؟. سوف نترك الإجابة لقادم الأيام لنرى هل أن المتسائلين على حق أم أن وسائل الإعلام هذه على حق .
تطمينات ولكن ...
عندما أعلن رئيس الجمهورية حالة الطوارئ في البلاد ارتفعت أصوات عديدة عبّرت عن تخوّفها من أن يكون ذلك حجّة وذريعة للتضييق على الحريات الفردية والعامة وضربها . آنذاك تحدّث الرئيس وقال إنه يطمئن الشعب التونسي كلّه بأن ذلك لن يحدث وإن الحرب على الإرهاب هي التي فرضت هذا الإجراء الإستثنائي المؤقت الذي تم التمديد فيه في أول مناسبة وبلا تفسيرات مقنعة . وحتى وزارة الداخلية التي قال ممثلون عنها وقالت نقاباتها إنه لا سبيل إلى عودة الممارسات البوليسية القمعية القديمة فإنها لم تقدّم موقفا واضحا إزاء ما يحدث واكتفت بالقول إنها " جهاز تنفيذي يطبّق القانون فقط " . وقد علّقت بعض الأحزاب والمنظمات على هذا الموقف بالقول إنه مجرّد رمي للكرة في مرمى الحكومة التي زادت الأمور غموضا بصمتها وعدم إصدار أي توضيح رسمي يقطع مع الشكوك والإتهامات ويضع حدّا للتأويلات ويقول بكل وضوح إما أن الحكومة ترفض ما يحدث وإن التجاوزات الحاصلة فردية واجتهادات شخصية خاطئة بالتأكيد وإما أن ما يحدث سياسة عامة أوسياسة حكومة وما الداخلية إلا أداة تنفيذ فيها .
نحن مع هذا ولكن ضدّ هذا
وفي كل الحالات والأحوال ليعلم الجميع أننا ساندنا الداخلية في حربها على الإرهاب وسنظلّ نساندها شأننا في ذلك شأن أغلب التونسيين الذين يريدون الإستقرار والأمان لهذه البلاد . نحن أيضا ساندنا الأمنيين في كل طلباتهم المتعلّقة بتحسين ظروف عيشهم وظروف عملهم حتى يقدروا على لعب دور الأمن الجمهوري مثلما وعدوا . وفي المقابل نحن لا نقبل أن تصبح التجاوزات والعنف قاعدة لتعامل الأمن مع المواطن وما عداهما استثناء . نحن مع الأمن في تطبيق القانون على " الكبير " قبل الصغير عسى أن يشعر المواطن بأنه في بلد يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات ولا شيء فيه يعلو على القانون . أما أن يتواصل الأمر مثلما هو عليه اليوم فإن ذلك سيعزّز فكرة التونسي الذي يكاد يكون مقتنعا بأن كافة المؤشرات توحي بأن الأمنيين صاروا فوق المحاسبة وفوق القانون وهذا خطير جدا ومن حق التونسيين أن يصلوا إلى هذا الإستنتاج طالما أن الحكومة صامتة ورئاسة الجمهورية ليس لها موقف واضح والداخليّة لم تعلم يوما الشعب أو مجلس نوابه بنتيجة أي تحقيق تم فتحه . ولعلّ الفرصة ما زالت سانحة للمرور من التشاؤم إلى التفاؤل ولا يتطلّب ذلك سوى تغيير العقليات لدى بعض الأمنيين ولا نقول كلّهم لأننا رأينا في أكثر من تسجيل وللتاريخ وللحقيقة نقول هذا الكثير من الأمنيين من ذوي الرتب العالية يحاولون تهدئة الأوضاع ويدعون منظوريهم إلى عدم التهوّر والإعتداء على الناس لكن كل شيء سرعان ما يسقط في الماء لأن هناك بعض الأمنيين من يأتون من الخلف ويشرعون مباشرة في الإعتداء بالضرب على الناس وكأن هناك من " عمّرهم " أو لكأنّهم " معمّرين من عند ربّي " ضد خلق الله المسالمين .
شكري الشيحي
التعليقات
علِّق