لا دستور ولا هم يحزنون

لا دستور ولا هم يحزنون

بقلم نوفل بن عيسى

المشروعية اقوى من الشرعية في تونس وفي غيرها من البلدان وعلى هذا الاعتبار تولى الحسين بن على مؤسس الدولة الحسينية الحكم وانقلب دي غول De Gaulle على الجمهورية الرابعة كما بين ذلك غريمه ميتران Mitterrand في أكثر من مناسبة واكثر من موضع وانقلب بورقيبة على الباي كما انقلب بن علي على بورقيبة  وتولى فؤاد المبزع الرئاسة بعد بن علي الى حين تنظيم انتخابات وافتك السيسي الحكم من الاسلاميين والأمثلة كثيرة.
وعلى هذا الأساس أقدم قيس سعيد على إزاحة المنظومة السياسية الحالية جملة وتفصيلا بأحزابها الحاكمة منها والمعارضة وبالأخص التيارات الاسلامية الملقبة "بالخوانجية" نظرا لتبنيها الفكر الاسلامي الاخواني الذي أسس له حسن البنا زعيم "حركة الاخوان المسلمين" في مصر وكذلك العائلة البورقيبية والتجمعية ومن لف لفها من "الخوامجية"-مع حفظ المقامات- الذين عاثوا في البلاد فسادا لمدة نصف قرن ثم تجندوا للانقلاب على الثورة.
وعندما تأكد قيس سعيد من حزامه العسكري والأمني والسياسي اليساري فضلا على مساندة اتحاد الشغل واتحاد الاعراف وغيرهما من المنظمات الوطنية ومكونات المجتمع المدني وتزكية مناصريه ممن انتخبوه خاصة انهم أكثر عددا ونسبا ممن صوتوا لكل الاحزاب مجتمعة، أعلن عن بدء عهده وتنفيذ مشروعه وما وعد به في حملته مستندا الى شرعيته الانتخابية ومشروعيته السياسية.
والجدل حول مفهوم الفصل الثمانين من الدستور هو من قبيل اللغو والعبث والهراء إذ "سبق السيف العذل" و"حصل ما في الصدور" ولأدل على ذلك الهبة الشعبية التي رافقت "الانقلاب المبارك" الذي نجح فيه قيس سعيد وكأنه "الخطاف  الذي سيصنع الربيع" وذلك بتدبير من "زائري الليل" من اصدقائه ومستشاريه الذين رافقوا ودبروا حملته الانتخابية  ولكن مشكلة تونس لا تقتصر على النهضة فحسب وهي التي انهزمت سياسيا بعد عشر سنوات من قيادة الحكم بسبب "دهاء مرشدها ورئيسها راشد الغنوشي السياسي" وهو الذي يتحمل تبعات منهج "التوافق" الذي اعتمده وعمل به وهزيمة الشيخ والاستاذ عبد الفتاح مورو مرشح حزبه في آخر انتخابات رئاسية  وما آل إليه مصير حركته وتقلص شعبيتها الى أن "هزمت نفسها بنفسها" وعلى هذا يلومه حتى "اهله وذويه" وعليه اعتذر وتحمل مسؤولية الفشل كاملة ولم يحمل ذلك غيره ولم يدعي انه "غلطوه" كما ادعى بورقيبة من قبل بعد فشل سياسة التعاضد وبن علي في "خطبة الوداع" وهذا يحسب "للشيخ".

إن لوبيات الفساد وتوظيف القضاء والزجر المالي حسب مصالح حاكم البلاد ورغباته وجعل انصاره وازلامه يتحكمون في مفاصل الدولة وتعسف السلطة التنفيذية والاقتصاد الموازي واستغلال النفوذ والتهرب الجبائي وتردي خدمات المصالح العمومية والمستشفيات والتربية والتعليم والثقافة والاخلاق والافلات من المحاسبة والعقاب .... الخ، ليست حديثة وانما كانت قائمة وفاعلة ونافذة قبل الثورة وقد ارستها الانظمة القديمة وبخاصة منها نظام بن علي "الحاكم بأمره" وحزبه ثم استفحل الأمر في العشرية الاخيرة حتى بلغ حده ووصل الأمر الى ما لايطاق فحصل في عيد الجمهورية الأخير أن تدخل رئيس الدولة لايقاف النزيف واستبشر الناس كما استبشروا من قبل بالثورة المجيدة وبالتغيير المبارك وبإعلان الجمهورية وبالاستقلال وما أشبه اليوم بالبارحة.
ومنذ إرساء ما يعبر عنها بالدولة المدنية والشعب في حالة انتظار  وسيظل كذلك الى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود والشحم من الورم ويظهر الدخان الأبيض إذ ان التاريخ سيرورة تؤدي الى صيرورة و"تلك الايام نداولها بين الناس".
وأما الدستور فقد احتكره من يلقبون انفسهم "بالدستوريبن" كما احتكروا غيره مما ناضل من اجله كل التونسيين الوطنيين قبل الاستعمار وبعده.
وأول دستور في العصر الحديث هو دستور "عهد الامان" الذي ابيد بفعل الاستعمار ومن هيأ له.
ومنذ تأسيس حزب الثعالبي بدأ الحراك الشعبي للمطالبة بدستور تونسي كما طالب به باي الشعب المشير الشهيد محمد المنصف باي وحققه آخر بايات تونس محمد الأمين الذي أمر بتأسيس المجلس الدستوري وأمضى على اجتماعه تحت اشرافه وحضر أولى جلساته لبلورة دستور للبلاد ولكن انقلب عليه بورقيبة بدعوى تأسيس الجمهورية فلم تكن لا جمهورية ولا مستقلة ولا ذات سيادة إذ تبين أنها خدعة من اجل إرساء دولة بورقيبية ركائزها الجهويات وتقسيم البلاد وشعبها إلى "أغنياء الاستقلال" وطغاة وفقراء ورعاة راضخة "لحماية" استعمارية جديدة وهكذا بقيت الدولة رهينة التبعية والمديونية وهذا حالها الى يوم الناس هذا.
وأما دستور 1959 فقد عبث به "الزعيم" اذ غير فصوله حسب مآربه حتى صارت جمهورية الرئاسة مدى الحياة باسم المشروعية والمصالح العليا للبلاد! ومثله صنع "صانع التغيير" الى أن حل عهد الجمهورية الثانية وهي تحتضر الان وتلفظ انفاسها الاخيرة وبدأ التحضير لحلول عهد الجمهورية الثالثة. فلا تبالغوا في التفائل كما بالغتم فيما سبق وانتظروا حلول الغد الأفضل الذي تأملون وهذا ما نتمناه دون شك  إذ كلما حل بالبلاد نظام إلا وأتى بدستور على أن يلتزم به ثم "جانب الصواب وأتى بالعجب العجاب" فلا دستور ولا هم يخزنون.

التعليقات

علِّق