د . أحمد القديدي يكتب : مؤسسات الدولة بين الشرعية والتمرد
لحظة فاصلة نعيشها اليوم في مصر و في تونس تمثلت في القاهرة بتغيير محمد مرسي المنتخب بقيادة مؤقتة إختارها الجيش و تمثلت في تونس في إغتيال جبان و مجرم لرجل مناضل أصيل هو محمد البراهمي رحمة الله عليه و وجدنا أنفسنا في البلدين أمام مخاطر ثلاث متشابهة يحاول المتظاهرون و النعتصمون أن يجهضوها وهذه المخاطر الثلاث تترابط مثل حلقات سلسلة مخيفة تهدد النسيج الإجتماعي العربي و تربك البناء السياسي العربي و تمهد لخروج العرب من التاريخ وهي جميعا أي المغامرة و الفوضى و الفتنة تولد من رحم المصالح الدنيوية المتضاربة ومن رحم الإنتماءات الأيديولوجية المتناقضة بين أبناء الوطن الواحد فيحدث عادة أن تتغلب الحسابات الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن العليا و أن تطغى المطامع الشخصية المحدودة على الطموحات العامة للمجموعة الوطنية فيقع الكسر الذي لا يجبر في مفاصل المجتمع إلى حين عودة الوعي للنخبة و عودة البصيرة للمواطنين حين يكون جبر الكسر ممكنا و لكن التاريخ أثبت أن الزمن لا يصلح ما أفسده الناس بأيديهم و أن مصائر الشعوب كالزجاج لا يلتئم بعد الكسر.
هذا الذي جال بخاطري و أنا أسمع بعض أصوات سياسيين تنادي هذه الأيام باستنساخ التجربة المصرية في تونس و نقل حركة (تمرد) من ميدان التحرير بالقاهرة إلى شارع بورقيبة بتونس. وهي دعوات إنتهازية لم تراع لا خصوصية البلدين و لا مستقبل الربيع العربي و لا طبيعة المرحلة الهشة التي تمر بها تونس إقتصاديا و إجتماعيا و بالتالي سياسيا. ثم إن فشل الحراك العسكري المصري لم يعد خافيا عن الرأي العام العربي و الدولي لأنه حراك مرتجل دبره أفراد يحصون على أصابع اليد و لعله أخذ بخاطر أطراف أجنبية عن مصر وهو إلى حد الساعة لم يثمر إستقرارا منشودا و لم يحقق عودة ملايين المصريين إلى بيوتهم و أعمالهم ولم ينفذ وعود إنجاز شرعية جديدة بسبب تكاثر الشرعيات و تناقضها فلماذا نريد استنساخ تجربة مريرة لم تؤكد بأنها الأنجع و الأصلح. مهما كانت أخطاء محمد مرسي فهي إجتهادات تخبطت كما تخبطت المعارضات المصرية وهي لا تستدعي إنقلابا إستعجاليا بل كان الأحرى فتح قنوات الحوار الوطني حول مصير ثورة 25 يناير لإعادة النظر في مسارها و كيفية تطبيق مستحقاتها و تحقيق غاياتها بعيدا عن هذا الإنشطار (أي إنقسام الشعب المصري إلى شطرين) الذي لا تحمد عقباه و لم تأت حركة قيادة الجيش لإجهاضه في المهد إنقاذا لمصر بل مع الأسف ساهمت الحركة في تعميق الإنشطار و ربما تسليحه و فتح الأبواب في وجه المجهول.إننا نعتقد في تونس أن هنات حكومة الترويكا و بطء المجلس التأسيسي في تحقيق وعوده أفضل من فتنة يوم واحد فالوفاق المطلوب لم يسع إليه الحاكم و المعارض على حد سواء و ظلت الحوارات هنا و هناك تسمع لها جعجعة إعلامية و دعائية ولا ترى لها طحنا كما يقول المثل العربي فكم مرة دعا الإتحاد العام التونسي للشغل لمؤتمر حوار و وفاق و نخرج من حوار لحوار دون حوار لأن تيارات غابت بسبب رفضها لتيارات أخرى أو لأن هذا الحزب يصر إصرارا و يلح إلحاحا على أن عقيدته هي الأفضل و فكره هو الأصلح فما جدوى الحوار بين نخب تتشبث برأيها مع إعتبار رأي الطرف المقابل مجرد تهريج أو "تحركه أياد خفية !" .
الفتنة تبدأ من إلغاء الرأي المختلف و الإفراط في الثقة في النفس التي تتحول إلى نرجسية مرضية فيتمترس كل حزب بما لديهم فرحون و يقع إيصاد اللعبة السياسية بصم الأذان عن سماع أي صوت مخالف. و لا نفهم كيف يرضى بعض الفرقاء بفتح باب المغامرة في لحظات تاريخية مفصلية هامة و دقيقة من واقع تونس و مصر اليوم لأن معضلاتنا الإقتصادية و مشاكلنا الإجتماعية ما لبثت تتفاقم على وقع تناقص الإستثمارات و تقلص السياحة و ازدياد حجم الديون و ارتفاع كلفة العيش ومراوحة حالة البطالة الشبابية مكانها إذا لم تتصاعد درجاتها و تتسع مجالاتها. فالبلاد في أشد الحاجة اليوم إلى بوصلة تهدينا لأقوم المسالك و إلى زعامة قوية و عادلة تقود هذا المركب التائه و إلى توافق صادق و أمين ينجو بنا من لجج اليم الهادر. وهو ما اقترحناه في الإتحاد الوطني الحر من حل توافقي معقول و ممكن.
تتواتر هذه الأيام في تونس عبارتا (الشرعية) و (التمرد) وهما مصطلحان مرتبطان تلقفهما جزء من النخبة السياسية بقصد إعادة سيناريو مصر في بلادنا وهنا تجدر الإشارة إلى عدد من المؤشرات منها أن الحالة المصرية تردت في نفق دموي يومي تهدد مؤسسات الدولة بالإنهيار و بدأ الضحايا يسقطون بدون وجه حق و بدون قضية تبرر تضحياتهم لأن القاعدة الدستورية التي أوصلت محمد مرسي للرئاسة ظلت هشة بسبب النسبة الضئيلة التي حصل عليها للفوز على منافسه أحمد شفيق وبسبب الأجواء المكهربة و المتشنجة التي أجريت فيها تلك الإنتخابات و التي أعلن في مطلعها عن فوز أحمد شفيق ثم تغيرت النتيجة و لا أحد بالظبط يدرك لماذا وكيف؟ ثم إن الشرعية إهترأت و أصابها إنجراف كإنجراف التراب في الحقول لأسباب ما بدا كأنه إستقطاب للسلطات الثلاثة بين أيدي الرئيس رغم هشاشة الوضع المصري العام و تكاثر النوايا من حوله للإطاحة به و التشكيك في الشرعية الإنتخابية فدخلت مصر مرحلة ما قبل التمرد ممهدة للتمرد الذي لم يكن عفويا و لا شعبيا بل مخططا له و مبرمجا بدقة. و إذا كان هذا هو الوضع المصري فإن تونس نأت بمؤسساتها إلى حد اليوم عن الإنهيار و حافظت نخبها على إحترام اللعبة الديمقراطية رغم صعوبة الحالة الإقتصادية و إنذارات الوضع الإجتماعي و لا أحد يمكنه التنبأ بالفراغ الدستوري و نتائجه المخيفة على المجتمع و نحن استمعنا إلى قيادات فاعلة في الثلاثي الحاكم يوم الإثنين الماضي تبعث برسائل مطمئنة على لسان رئيس الحكومة حول تحديد موعد الإنتخابات الرئاسية و التشريعية القادمة مؤكدين أنها لن تتجاوز موفى سنة 2013 و لعلنا بهذه الأليات الدستورية التونسية نخرج من التلويح بالتجربة المصرية المريرة و التي لا يدعو إليها سوى المغامر الذي لا يشعر بمسؤولية و سوى الفوضوي الذي يريد الوصول للسلطة من خلال الفوضى. إن أمن الوطن والمواطن إذا ما عرفت الدولة كيف توفره هو الضامن الأول لسلامة المسار الديمقراطي يليه الحوار الصادق و العميق الذي سيؤسس للوفاق. و ما عدا هذا المسار السليم فهو جر للبلاد و العباد نحو الفتنة وهي كما نعلم أشد من القتل.
التعليقات
علِّق