غازي بن أحمد : باستطاعة تونس أن تخرج من أزمتها لكن حذار فإن الوقت يلعب ضدّنا

غازي بن أحمد : باستطاعة تونس أن تخرج من أزمتها لكن حذار فإن الوقت يلعب ضدّنا

 

" بالرغم من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والأمنية   ما زالت  أمام  تونس  فرص للخروج من هذا الوضع الصعب   شريطة التعجيل بالقيام  بإجراء الإصلاحات اللازمة  التي يتطلّبها الوضع ... ". هذا تقريبا أهمّ ما جاء في هذا اللقاء الذي أجريناه مع رئيس المبادرة المتوسطية للتنمية السيد غازي بن أحمد.

 

كيف ترى الوضع في تونس اليوم بعد مرور 10 سنوات من الثورة ؟

بعد مرور عشر سنوات على اندلاع أولى ثورات الربيع العربي يعيش التونسيون حالة من الإحباط والمرارة لما آلت إليه هذه الثورة التي لم تف بوعودها وبما حملته من أحلام تبلورت تحت شعار " الكرامة والحرية " . لم تصبح الحياة أفضل بعد الثورة و لم يدرك المواطنون آثار التغيير في حياتهم وخابت توقعاتهم أمام واقع يتدهور يوما بعد يوم . فقد ثشكّلت تسع حكومات وتعاقب خمسة  رؤساء ومرت ثلاث محطات انتخابية تشريعية ومحطتان انتخابيتان رئاسيتان  ومحطة أخرى بلدية ثم تعود تونس إلى المربع الذي انطلقت منه :  أزمة سياسية تراوح مكانها وأزمة اقتصادية واجتماعية تتفاقم كل يوم.

لقد كانت  لدى " باسكال " استعارة جميلة لهذا النوع من المواقف: " نحن نركض بهدوء فوق الهاوية بعد أن نضع شيئ   أمامنا لمنعنا من رؤيته. " عشرية ضاعت في محاولات يائسة لإخراج البلاد من ركودها الاقتصادي .فالجميع متفق على تشخيص الأوضاع المتأزمة . لكن الحلول مشتّتة ومبعثرة في ظل عدم الاستقرار الحكومي و وضع اقتصادي صعب زادته جائحة  كورونا ترهلا و تأزّما . وفي عصر ما بعد Covid-19 لا يمكن تحقيق مخرج من الأزمة إلا من خلال الابتكار واقتصاد السوق و الاستثمار بكثافة في الابتكار والتدريب وما يتطلبه من إصلاحات جذرية ... لكن الخطر يكمن في أقلية تتعارض مصالحها مع ما يتحتم من إصلاحات فتستميت في عرقلتها   وفي  الدفاع عن امتيازاتها وإبعادها عن المنافسة   تدعمها في ذلك  أصوات تنظر إلى  الإصلاحات على أنها قيود مفروضة من قبل المانحين الأجانب .

وهل نجحت هذه الأطراف  في " إضاعة الوقت " على البلاد وبالتالي ساهمت في هذا الوضع الصعب ؟

إن الكثير من الوقت ضاع وأصبح من الحتمي إزالة الحواجز أمام تنمية الاقتصاد والانكباب على الإصلاحات العاجلة في التعليم والتكوين والصحة والسياحة و الطاقة والخدمات و النقل في وقت يستعد فيه العلم لتغيرات وتحولات ما بعد الكورونا . فقد ألقى وباء كورونا الضوء على هشاشة النظام العالمي وخاصة على مواطن الضعف المتعلقة بترابط و تداخل الاقتصاديات التي تشكل أهم أوجه الاقتصاد العالمي اليوم . و بدأ يعاود  طرح قضايا عولمة التجارة و دور الدولة في السياسات الاقتصادية و خارطة التصنيع وسلاسل الإمداد العالمية ومسألة التوطين .. وقد عزز هذه الأطروحات ظهور نماذج اقتصادية بديلة   أهمها أنموذج الصين الذي برز باعتماده إدارة ناجحة للجائحة .

 السؤال المطروح هنا : ما العمل لتخرج تونس من  هذه الأزمة  ؟

في ظل الاضطرابات والفوضى التي يبدو أنهما تميزان  عالمنا الحالي بشكل متزايد   يرى الخبير الاقتصادي  " Philippe Aghion "    الأستاذ  بالمعهد الفرنسي أنه لا ينبغي لنا تغيير المفهوم الاقتصادي وأنه  يمكننا أن نحافظ على الرأسمالية   و أن نجد لها هوامش  تحرّك  أفضل  لكن بشرط ترويضها  وكبح جموحها  وإعادة التفكير فيها   وتجديدها.

ويبدو لي أن هذا هو  بالضبط المطلوب منّا فعله في تونس : انتقال نحو اقتصاد السوق " على الطريقة التونسية " أي نحو اقتصاد سوق يرتكز على تقسيم العمل  حيث يكون الشباب في غير حاجة إلى التراخيص والإجازات من أجل إطلاق مشاريعهم  وحيث لن تكون هناك ضرورة للإقتصاد الريعي  وحيث تكون المنافسة  عنصرا محفّزا للمواهب والابتكار ومكافأة العمل والاجتهاد... كل ذلك مع عدالة اجتماعية أكثر من أجل ألّا يبقى أحد على هامش المجتمع.

وكتب " Paul Krugman " في هذا السياق  قائلا إن التجارة الدولية  مشابهة أو معادلة  للتقدم التقني : فهي ترفع الثروة الكاملة للبلدين اللذين لهما مبادلات تجارية بينهما دون الحكم المسبق على تأثيرات إعادة التوزيع. ومع ذلك  فإن التجارة الدولية لها تأثيرات قوية على توزيع الدخل داخل بلد ما بحيث تنتج حتما رابحين وخاسرين.

وإن يخسر البعض في التجارة الحرة أمر ممكن   لكن الحل ليس معارضة فتح اقتصادنا  بل في  فرض ضرائب على المكاسب الإجمالية للتجارة الحرة وتعويض الخاسرين في نفس التجارة الحرة.

ويتبنّى   " Philippe Aghion "   حدس " Joseph Schumpeter "  مخترع نظريّة "التدمير الخلّاق "  (  أو ربما الفوضى الخلّاقة ) ويتجاوز هذا الحدس . فقد  دعا في كتابه إلى  " الابتكار التراكمي  " كمحرك رئيسي للازدهار . إذن فإن النمّو يكون عن طريق التدمير الخلّاق وإنها    " العملية التي  تخلق من خلالها   الابتكارات الجديدة باستمرار وتجعل التقنيات  الموجودة حاليا تقنيات  قديمة  وتجعل مؤسسات جديدة تأتي بشكل متواصل لمنافسة المؤسسات الموجودة إضافة إلى الوظائف  والأنشطة الجديدة  التي يتم خلقها لتأتي باستمرار لتعويض الوظائف والأنشطة الموجود  . لذلك فهو محرك الرأسمالية وميلها إلى إعادة ابتكار نفسها باستمرار. وبفضل الابتكار  لا يمكن أبدا  أن أي   شيء ثابت  على الإطلاق.

 

في ظل كل هذا هل يمكن لتونس أن تتدارك تأخرها التكنولوجي ؟

بصراحة نحن متأخرون جدا في هذا المجال مثلنا مثل أغلبية بلدان المتوسّط سواء في الشمال أو في الجنوب.  ولا شكّ أن الأرقام ( في تونس كما في المنطقة كلّها ) تتحدّث لوحدها عن هذا الأمر. وقد كتب  كاتب العمود  " Laurent Alexandre "  قائلا : " سنة 1980 كان المغرب أغنى من الصين خمس مرات : 1075 دولارا كمعدّل دخل سنوي لكل مواطن مقابل 195 دولارا فقط لكل مواطن صيني . وقد أصبحت الصين قوّة علمية عظمى بينما بقي المغرب بلدا فقيرا بنسبة أميّة تبلغ 40 بالمائة لدى النساء. ورغم ذلك فإن ملك المغرب ملك منفتح ومتنوّر وهو محاط بنخبة من التكنوقراط من مستوى رفيع . لكن ذلك غير كاف ليتمكّن من مجارة النسق الآسيوي الذي لا حدود له حيث يتم الاستثمار بصفة مكثّفة في  البحث والابتكار والتربية والتعليم والذكاء الاصطناعي ".

إن الحقيقة أننا  في تونس نتأخّر ونتراجع  وأننا عالقون في الجمود  وعدم وضوح الرؤية. ففي مواجهة " GAFAM "  أمريكا و " BATX " الصينية   خسرت أوروبا بالفعل المعركة الأولى في حرب  أنواع الذكاء. وقد كانت فرنسا مثلا أغنى وأثرى 5 مرات من سنغافورة سنة 1970 . أما اليوم فقد ارتفع مستوى عيش  سكان هذا البلد الآسيوي  مرّتين.

 اليوم نحن نشهد  "  تسارع التسارع  "  ونرى أن آسيا  تقود الطريق.  وإنه لا يمكن إنكار أننا في حاجة إلى ربط اقتصادنا بالسوق الأوروبية لاستئناف نمونا .  لكن يجب أن نكون أكثر طموحا  وأن نقوم بخطوة تقارب   أيضا  مع  آسيا  وخاصة مع  الصين   لترك الاتجاه الحالي و القيام بقفزة تكنولوجية.  وسيواجه هذا التنوع   بالضرورة تقلبات العلاقات الدولية التي ستتميز في السنوات القادمة بحرب باردة جديدة . ويتّسم هذا التوتر بين الولايات المتحدة والصين  بالعنف وهو دائم ومتواصل  نحو انفصال يجعل الإقتصادين الصيني والأمريكي أقل ترابطا   ونتّجه نحو عولمة جديدة  تقوم على المحاور  حيث ستواصل واشنطن   حتى في ظل حكم " بايدن  "  الضغط على جميع الدول من أجل استبعاد الشركات الصينية . ومن المرجح أن يتسارع  هذا الاتجاه غير العقلاني  (néo-bushienne )  وأن يؤثّر على  علاقاتنا ويهيكلها .

ما هي حسب رأيك أولويات الحكومة الحالية لتفادي عشرية ضائعة أخرى ؟

حتّى ألخّص أقول إنه وبعد 10 سنوات من " الربيع العربي " يجب إعادة التفكير في دور الدولة وتطوير القطاع الخاص والابتكار وإعطاء فرص أكبر للشبان . فقد حان الوقت ليأخذ المجتمع المدني مهمّة إجراء التغييرات القادمة وأن يتحمّل السياسيون مسؤولياتهم . كما يجب السهر على تشريك النقابات وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل من أجل تجاوز الكثير من حالات تعطيل الإنتاج  والمآزق والوضعيات الصعبة. وفي المقام الأول يجب على تونس أن تحمي التونسيين والتونسيات من وباء " كوفيد 19 " وتوابعه ومشتقاته . لذلك يجب أن تتم الموافقة  فورا على كافة أنواع التلاقيح التي تم اعتمادها في أوروبا والموافقة على تسويقها في تونس بما فيها التلاقيح الروسية والصينية.

بعد ذلك يجب اتخاذ إجراءات سريعة وجذرية (من خلال تخفيف القيود الحالية على التراخيص   ورمز التبادل  التقليدي  وعلى استخدام البيانات) وإجراءات لوجستية ( خوصصة شركة الشحن والترصيف " ستام " ومؤسسات عمومية أخرى تمثّل عبءا على البلاد ) وإجراءات للبحث ( مع جامعة كبيرة وعلاقات أفضل بين البحث العمومي والبحث الخاص ) وكذلك في التربية والتكوين . وبكل تأكيد فإن التكنولوجيات الجديدة ستمكّننا من استعادة نموّنا.

التعليقات

علِّق