نحو استراتيجية تنموية مدمجة : أهمية العقد الاجتماعي، المؤسسات المدمجة والقيادة المؤسساتية

نحو استراتيجية تنموية مدمجة : أهمية العقد الاجتماعي، المؤسسات المدمجة والقيادة المؤسساتية

بقلم: محمود سامي نابي
أستاذ جامعي، جامعة قرطاج

بعد أن تطرقنا في المقال السابق إلى أهمية المقاربات المتعددة الأبعاد عند صياغة استراتيجية تنموية مدمجة، نتناول بالتحليل هذه المرّة، أهمية صياغة عقد اجتماعي جديد كجزء من استراتيجية تنمية مدمجة، ونبين دور المؤسسات المدمجة وكيف يمكنها أنت تلعب دورا جوهريا في تحقيق الوفاق الوطني حول الإصلاحات الاقتصادية الضرورية،  و قيادة التغيير من أجل تونس حديثة ومزدهرة لكل أبنائها.


1 - حاجة إلى عقد اجتماعي يضمن التقدم الاجتماعي والإدماج
من المُهم أن يــُــمثل التقدم الاجتماعي (تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، بناء رأس المال الاجتماعي، وخلق الفرص لجميع المواطنين)، جُزءًا من العقد الاجتماعي وأن يُضمّن في استراتيجية تنمية مدمجة.  والإدماج مفهوم متعدد الأبعاد، يتجاوز بُعدي الفقر وتوزيع الدخل، ليشمل المساواة في الوصول إلى الفرص الاجتماعية والاقتصادية لجميع المواطنين، وتقاسم فوائد النمو الاقتصادي بينهم، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية. هذه روح الإدماج، التي أكّد عليها الاقتصادي والفيلسوف أمارتيا سين (Amartya Sen)  وهو الذي فتح مجال التحليل الاقتصادي أمام الحرية الفردية، والقدرة على العمل، أو ما اصطلح على تسميته بمجال القدرات  . (Espace des capabilités) وكما أشار شابرا (Chapra, 2008) فإن الرفاهية الإنسانية، تٌمثل محور الديناميكية الحضارية لابن خلدون، التي تُدرك عندما يقترن التقدم المادي، بالرقي الأخلاقي، بالعدالة، وبالوئام الاجتماعي. ومن الواضح، أن الوئام الاجتماعي غير ممكن في الاقتصادات التي لا تتوفر فيها الفرص الاقتصادية للجميع، بل تقتصر على الأغنياء، والمُقرّبين من رجال السلطة (Levine, 2011).

ومن هنا فإن تنظيم دور الدولة، ضمن عقد اجتماعي جديد، أمر مهم للغاية لتونس، لتقريب المواقف المتعارضة المتكررة بين الشركاء الاجتماعيين. ولتنظيم هذا الدّور، لا بُدّ من صياغة عقد اجتماعي مُدمج، يُحدّد القواعد العادلة للنظام الاقتصادي. وقد أشار ستيغليتز (Stiglitz, 1998))، إلى أهمية القوانين والتشريعات المنظمة وإلى دور المؤسّسات في تحديد كيفية آداء الأسواق، وطبيعة النمو الاقتصادي، وسُبل تقاسمه. فعندما يتم وضع القواعد بشكل صحيح، يتعزز الرفاه الاجتماعي بصفة متلازمة مع الأداء الاقتصادي القوي (Stiglitz, 1998). وقد لاحظ روبالينو وآخرون ( (Robalino et al., 2015أن العقد الاجتماعي الموقع في جانفي 2013  بين الحكومة التونسية، والشركاء الإجتماعيين، يُعتبر خطوة جيدة أولى، نحو بناء حوار اجتماعي وطني. ويشيد المؤلفون بالنوعية الجيدة للميثاق الاجتماعي، الذي يحدد منهجية الإصلاحات وخطوطها العريضة. ويُشدّدون كذلك على أهمية المنهجية الشاملة للأمن الوظيفي المرن (flexi-securité)، من أجل إصلاح قانون ومؤسسات سوق الشغل. فالمرجو هو أن تساهم في حماية أفضل للعمال، وفي نفس الوقت إعطاء الشركات المرونة اللازمة لتظل قادرة على المنافسة . (Robalino et al., 2015)   ومن المؤسف أنه ليس هناك تقدم واضح، منذ 2013، فيما يخصّ تطوير عقد اجتماعي جديد، يضمن التقدم الاجتماعي والإدماج. ولا بدّ من بناء عقد اجتماعي، يسهّل على الحكومة المضي قدماً في وضع استراتيجية تنمية متكاملة وأوسع نطاقاً.  ولقد أصبح من الواضح منذ سنوات، أن هناك حاجة أكيدة لمأسسة الحوار الاجتماعي، واستنباط آليات وأدوات دائمة وذات التأثير الإيجابي على مصداقية المفاوضات الإجتماعية. ومن المُرجح أن تقلل مأسسة الحوار الاجتماعي، من مدى تعرض المفاوضات لعدم الاستقرار السياسي. وكما أشار ستيغليتز (Stiglitz, 1998)، فإن القدرة المحدودة لبعض البلدان على حل النزاعات، تمثل إحدى العقبات التي تعترض مسار تنميتها. وتستشهد منظمة العمل الدولية  (ILO, 2011) بالمثال الناجح للحوار الاجتماعي الذي صيغ في جمهورية كوريا الجنوبية. ولم يكن الحوار الاجتماعي موجودا فيها، في ظل النظام العسكري، قبل أن يظهر في سنة 1993 مع الانتقال إلى نظام ديمقراطي. وفي عام 1998، أنشأت الحكومة الكورية إثر الأزمة المالية، اللجنة الثلاثية الكورية   (KTP) من أجل إشراك الشركاء الاجتماعيين في إعادة الهيكلة الاقتصادية، وتحديث قانون العمل. ولعبت هذه اللجنة دورًا مهمًا في بناء إجماع وطني، وتسهيل الانتعاش الاقتصادي.


2 - لماذا تُعدّ المؤسسات المدمجة مهمة للتنمية؟
إن قدرة اقتصاد ما على تحقيق نمو مدمج، وتحسين مستوى المعيشة، يعتمد على مدى إنجاز السياسات الاقتصادية الهيكلية والمؤسساتية الضرورية، التي تتعدّى التعليم وتوزيع الثروة  .(Schwab, 2015) وقد لاحظ غريرو وآخرون (Guerero et al. 2009) ، أن ضعف مؤسسات الدولة يؤدي إلى قلة فاعلية الأسواق، وتشوّه تصميم السياسات العمومية بصفة تخدم مصالح الفئات المتنفّذة، على حساب المصلحة العامة والأجيال القادمة ( .(Guerrero et al., 2009وتختلف المؤسسات التي يمكن أن تتأثر بالفئات المتنفّذة. فهي تشمل الهيئات الرقابية، النظام القضائي، السلطة التشريعية، الوكالات العمومية التي تصمم الإجراءات الإدارية والحوافز، الأحزاب السياسية، والسلطة التنفيذية.  ويتعرض في هذه البيئة صناع القرار إلى ضغوطات الفاعلين الأقوياء من أجل رسم سياسات تخدمهم في المقام الأول. ويستنتج اسيموغلو وروبنسون (Acemoglu & Robinson, 2012) في كتابهما "لماذا تفشل الأمم؟" (Why Nations Fail?) ، أن المؤسسات السياسية الاستخراجية تؤدي إلى ظهور مؤسسات اقتصادية استخراجية، تستفيد من سياساتها فئات قليلة على حساب المجتمع برمّته. ويسعى المستفيدون من المؤسسات الاستخراجية للمحافظة على مواقعهم في السلطة، من خلال عديد الطرق، التي قد تصل إلى إنشاء ميليشياتهم (الخاصة) ومرتزقتهم، رشوة القضاة، وتزوير الانتخابات.

إن المؤسسات السياسية المدمجة، شرط من شروط بناء الثقة والصبر التي يحتاجها صناع السياسات لتنفيذ الإصلاحات المكلفة على المدى القصير، والضرورية لتوليد المكاسب الاقتصادية والاجتماعية على المدى الطويل  (Easterly, et al. 2006) . وقد أشار كابلان وفريمان ( (Kaplan and Freeman, 2015إلى أهمية إعادة هيكلة المؤسسات السياسية، أثناء الفترة الانتقالية، وذلك من أجل الرفع من الفاعلية الاقتصادية، والإنصاف فيما يتعلق بتوزيع السلطة والموارد. ولكن إعادة هندسة المؤسسات السياسية عملية طويلة وصعبة، تعالج الكثير من الأبعاد: النظام الانتخابي، النظام القضائي، اللامركزية، واستقلال المؤسسات العمومية... كما تتطلب إحساسًا كبيرًا بالانفتاح، وبالادماج من جانب القادة السياسيين. وفي هذا الصدد، يرى كابلان وفريمان (Kaplan &       (Freeman, 2015)  بأن التقدم في ترسيخ استقلال المؤسسات وتعزيز ادماجها، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التوازن السياسي خلال الفترة الانتقالية. وفي غياب ذلك، قد تُؤدي الإصلاحات السريعة والعميقة إلى زعزعة مصالح الفئات المتنفذة، إلى درجة تجعلهم يؤججون التطرف، أو هيمنة النخبة، أو حكم الحزب الواحد، أو الصراع العرقي، أو الانفصال، أوالفساد، أو الجمود.


3 - أهمية القيادة المؤسساتية
تُولّد القيادة (Leadership)  مجال التغيير، بحشد الناس، وتحفيز القوى الفكرية والمعنوية الكامنة في المجتمع، وتسهيل تجميع الموارد، من أجل تحقيق أهداف التغيير المنشود(Andrews et al., 2010)   .وجوهر القيادة هو تعزيز قابلية المجتمع للتغيير، من خلال تشجيع التوجّهات التوّاقة لذلك. والتغيير مسار مُعقّد يستلزم تكرار الاتصال والنقاش والقدرة على تغذية أهداف التغيير بالأفكار التي تولّدها حلقات الحوار المتكررة. ويمثل أندروز وآخرون ( (Andrews et al., 2010) مجال التغيير بتقاطع ثلاثة مكوّنات أساسية: قبول التغيير، القدرة على التغيير، والمساءلة أثناء التغيير. والفكرة الأساسية التي تنبثق من دراستهم، هي ضرورة أن تتخذ القيادة الإجراءات الكفيلة بتوسيع مجال التغير، مع السعي لجعله مسارًا قائما على المؤسسات، متجددا، آخذا بعين الاعتبار تطور البلاد.

أعتقد، كما يعتقد كثير من التونسيين، أن قيادة الحبيب بورقيبة، لعبت دورًا مُهمّا في تأسيس أركان الدولة الحديثة. أما بالنسبة للوضع الحالي، فإني أعتقد أن تونس بحاجة إلى قيادة مؤسساتية. ويشير كابلان وفريمان  Kaplan & Freeman, 2015)) إلى ان الكاريزما مهمة لنجاح القادة، إلا أنها مرتبطة كذلك بقدرتهم أن يكونوا براغماتيين (عمليين)، أن يستجيبوا للاحتياجات المتغيرة، وأن يبنوا المؤسسات التي تحقق رؤيتهم. فالقيادة الناجحة هي التي تبني المؤسسات ولا تسعى إلى بناء الإمبراطوريات. واقتناعي راسخ بأنه لا يمكن لتونس من تخطي مرحلة المصيدة ( (trappeالسياسية-الاقتصادية الحالية، دون قيادة مؤسساتية. ويرجع ذلك بالأساس، إلى المجالات المتعددة التي لابد أن يشملها مسار التغيير. ولا خيار أمام التونسيين إلا المشاركة الفعالة في مسار التغيير بأبعاده المختلفة (التماسك الاجتماعي، النظام السياسي، النظام الاقتصادي) عن طريق آليات جديدة لتشريك المواطنين (أفرادا وعن طريق المجتمع المدني) بالاعتماد على المنصات التكنولوجية، من أجل بناء مؤسسات حديثة، تُدار بطريق عصرية، شفافة وخاضعة للرقابة والمساءلة. وفي هذا الصدد، يرى كابلان وفريمان (2015) أن البيئة (écosystème)   البناءة لدعم القيادة، يجب أن تشمل أنواعًا مختلفة من المؤسسات الاجتماعية، أن تُسهّل الولوج إلى فرص التعليم، أن تُعصرن النظام القانوني، وذلك لتسهيل إنشاء مؤسسات جديدة، وخلق مجالات واسعة للحوار والتطور.

وأنا مقتنع بأن تونس لا تحتاج فقط إلى ظهور مؤسسات تُحفز الحوار وتسهم في المزيد من التماسك الاجتماعي والإدماج السياسي والاقتصادي فقط، بل وأيضاً، إلى مؤسسات تُطور الإبداع، وريادة الأعمال. وكما أشار روبرت شيلر  (Shiller, 2014) ، فإن الناس يحتاجون للعمل مع بعضهم البعض، داخل المؤسسات التي تُسهّل العمل الجماعي و الإبداع، والتي يقودها أشخاص يتمتعون بالنزاهة. ومن الأجدر، حسب رأيه، أن تكون حوكمتها بطريقة جماعية حديثة وتشاركية، مختلفة عن الطرق التقليدية التي يسيطر من خلالها في العادة، قادة مركزيون على آليات اتخاذ القرار. ويدافع شيلر ( (Shiller, 2014عن الحاجة إلى هذا النوع الجديد من المؤسسات الاقتصادية، لتوليد الابتكار من أجل استدامة النمو اقتصادي. وأعتقد أننا نحتاج إلى مثل هذه المؤسسات كذلك، في المجالات الأخرى لمسار التغيير. حيث سيكون من الصعب على تونس أن تنجح في انتقالها الديمقراطي، بدون ظهور مثل هذه المؤسسات. وأنا أزعم ذلك، معتمدًا على دراسة أسيموغلو وروبنسون (  (Acemoglu & Robinson, 2000التحول إلى الديمقراطية أو القمع") حيث بينت أن مصالح النخبة النافذة (المسيطرة على النظام السياسي القديم) تؤدّي إمّا إلى ظهور نظام قمعي جديد (الدكتاتورية) أو الشروع في الانتقال إلى ديمقراطية كاملة. ويرجع سبب اللجوء إلى أحد هذين الخيارين المتناقضين، وعدم وجود حلّ وسط بتنازلات متواضعة (متمثلة في إعادة توزيع جانب بسيط من الثروة والسلطة)، لصالح الفئات الأخرى من المجتمع، هو عدم ديمومته وإمكانية انبثاق حركات واحتجاجات اجتماعية متطرفة.


4 - تحصين الاقتصاد التونسي ضد عدم الاستقرار السياسي
في السنوات الماضية، أظهر جلّ التونسيين نضجهم خلال الاحتجاجات الاجتماعية المتكررة، مطالبين بخطط تنموية لمناطقهم، وليس بالضرورة برامج قصيرة الأجل. ومع الأسف، مع مرور الوقت وتعاقب الحكومات وبطء الإنجازات، ضعفت الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بوعودها، وتقلصت مصداقية النخبة السياسية لدى الشعب. وسبق لي أن شدّدتُ منذ (Nabi, 2011)، على العلاقة المتبادلة بين الانتعاش الاقتصادي السريع، ونجاح الانتقال السياسي. فمن البديهي، أن خيارات المتدخّلين الاقتصادية ارتبطت بتوقعاتهم حول القواعد الجديدة التي ستحكم المثلث المتكوّن من: الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع المدني. ومنذ 2011، اتّسم سلوك القطاع الخاص، في غالب الأحيان، ب"الانتظار والترقب"  (wait and see) فيما يتعلق بالاستقرار السياسي، وتحسّن مناخ الأعمال. غير أن الغموض السياسي أثّر على النشاط الاقتصادي، مؤدّيا إلى تراجع الاستثمار الخاص والادخار الوطني. وقد أدّى هذا الوضع، إلى زيادة حدّة الصدمات الاقتصادية السلبية (الاضطرابات الاجتماعية، والاضرابات، والركود في أوروبا، والحرب في ليبيا، والهجمات الإرهابية، إلخ.)، وتدهور الأوضاع الاقتصادية (نمو اقتصادي منخفض، عجز عام مرتفع، عجز كبير في الحساب الجاري، انخفاض قيمة الدينار، وارتفاع المديونية، وانتشار الفساد، والاقتصاد الموازي) متغذية بسلبية التوقعات الذاتية التحقق (anticipations auto-réalisatrices).

وقد أشرت كذلك في  (Nabi, 2011) إلى أهمية تقليص الغموض حول الخيارات الاقتصادية المستقبلية للبلاد، واستعادة ثقة التونسيين. إلا أنه ولسوء الحظ، كان عدم الاستقرار السياسي الذي رافق مسار الانتقال السياسي ضارًّا للغاية بالاقتصاد. ففي 2017، عرفت البلاد حكومتها التاسعة منذ 14 جانفي 2011. ولم يتمّ بعد هيكلة الأحزاب السياسية بشكل جيد، وهي تشكو كذلك من ضعف تجذرها في المجتمع.  كما تقلّصت ثقة الشعب في النخبة السياسية، وخاصة من طرف الشباب. ومن أجل الحدّ من التدخل بين مجالي السياسة وإدارة السياسات الاقتصادية، اقترحت في (Nabi, 2016) إنشاء المعهد التونسي للتنمية (Tunisia Development Institute) ليكون مؤسسة عمومية تتمتع بالاستقلالية عن الجهاز التنفيذي، مراقبة من طرف البرلمان ومكلفة بصياغة استراتيجية للتنمية الاقتصادية، والتنسيق بين مختلف المتدخلين،  ومراقبة التقدم في تنفيذها. وكانت المرة الأولى التي فكرت فيها في إنشاء المعهد التونسي للتنمية (TDI) بمناسبة ندوة دولية حيث قابلت K.C.، كبير الاقتصاديين من معهد كوريا للتنمية (KDI). وأتذكر أنه حدّثني عن الدور الهام الذي يلعبه معهد كوريا للتنمية في مسار نهضة كوريا الجنوبية وكيف استفادت الحكومة من خبرة أفضل الاقتصاديين في البلاد.

وأوّل الخطوات هو بناء إجماع وطني على استراتيجية تنمية، تستند إلى رؤية مستقبلية للنمو المدمج، وهو ما يُعتبر خطوة أولى حاسمة، كما أشار إلى ذلك سبينس (Spence, 2016). ويجب أن يكون المعهد التونسي للتنمية، المكان الذي تُصاغ فيه "أفضل السياسات" الاقتصادية الممكنة، بطريقة سريعة تضمن التوافق الأكبر بحيث تكفل التفاف كافة المتدخلين ابان مختلف مراحل التنفيذ، وهي التي تتكفل بمتابعة عمليات التنفيذ والتقييم. ويتطلب ذلك معهدا تونسيا للتنمية (TDI) مُدمجا، ومنفتحا تجاه الأطراف الفاعلة المتعددة في الاقتصاد التونسي (الهيئات العمومية، والقطاع الخاص) وكذلك تُجاه المجتمع المدني (النقابات)، والأحزاب السياسية. فمن المهم أن تكتسب هذه المؤسسة ثقة هذه الأطراف، بحيث يمكنها اقتراح أفضل السياسات العمومية، حتى إن وجدت تصورات مختلفة حول بعض الإصلاحات الضرورية المندرجة في إطار استراتيجية التنمية.

والهدف الأسمى من هذه المؤسسة أن تضمن التحول الاقتصادي في تونس من خلال انخراط كافة الأطراف المجتمعية في تعاقد طويل الأمد، يصمد أمام الهزات السياسية وتعاقب الأحزاب في السلطة. ويقتضي ذلك أن تتمتع بخبرة معترف بها على المستوى الوطني والدولي في سياسات التنمية الاقتصادية، بحيث يمكنها أن تلعب دور القائد(leader)  من خلال تحفيز الحوارات الاقتصادية، ووضع الأولويات للدراسات الضرورية لصياغة السياسات العمومية، توزيع المسؤوليات بين مراكز البحوث والهياكل العمومية النشطة في الاستشارات الاقتصادية. لقد تم لعب هذا الدور إلى حدّ ما، من قبل المجلس الاجتماعي والاقتصادي، منذ عام 1959 وحتى تاريخ تعليق الدستور الأول للجمهورية في عام2011. وكان المجلس منظمة دستورية لها دور استشاري لرئيس الوزراء. وفي عام 2012، تم إنشاء مجلس التحليل الاقتصادي (CAE) كهيكل استشاري لرئيس الحكومة. ومع ذلك يرتبط مجلس التحليل الاقتصادي CEA بالسلطة التنفيذية ولا يمكنها لعب الدور الذي أقترحه إلى المعهد التونسي للتنمية.

ومن شأن هذه المؤسسة أن تُحصن النقاش حول السياسات الاقتصادية، من حيث التصور والتقييم، من التدخل السياسي. فالملاحظ أن النقاش يدور منذ قيام الثورة، من خلال قنوات مجزأة وبشكل رئيسي عبر وسائل الإعلام. وفي عام 2014، أطلقت الحكومة التكنوقراطية "حوارًا اقتصاديًا" مؤقتًا بهدف بناء إجماع بين الأحزاب السياسية والشركاء الاجتماعيين على التوجهات الاقتصادية الاستراتيجية الرئيسية للبلاد. ومن المتوقع أن يقوم البرلمان، بإحياء المجلس الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من أنه من المتوقع أن تساعد هذه المؤسسة في إجراء الحوار الوطني بين الجهات الفاعلة المتعددة في الاقتصاد، إلا أن دورها الاستشاري يمنعها من أداء الدور الأشمل والريادي الذي أقترحه للمعهد التونسي للتنمية (TDI). كما أن لجنة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال المقبلة، هي كذلك مؤسسة استشارية أخرى، تم تضمينها في الدستور الجديد. ومن المنتظر أن تلعب دورًا مكملاً للمجلس الاجتماعي والاقتصادي، حيث يتم استشارتها حول مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، وكذلك بخطط التنمية.

التعليقات

علِّق