هل أصبحت قرقنة خارج إطار الدولة والقانون وهل ما يحدث يرتقي إلى " جريمة دولة " ؟

هل أصبحت قرقنة خارج إطار الدولة والقانون وهل ما يحدث يرتقي إلى " جريمة دولة " ؟


أثارت حادثة غرق مركب الموت  بسواحل قرقنة مسائل قديمة جديدة هي للأسف حديث أهالي الجزيرة منذ بضع سنوات وأهمّها غياب الدولة شبه الكلّي عن هذه الرقعة التي تنتمي حسب علمنا إلى الجمهورية التونسية . لقد باتت قرقنة منذ حوالي سبع سنوات ونيّف خارج إطار الدولة وخارج إطار القوانين التي تحكم مبدئيّا هذه البلاد . فمن " يحكم " في هذه الرقعة التونسية ليس الدولة التونسية وإنما عصابات وجدت للأسف الأرضية الملائمة لترتع مثلما تريد  وتنفذ " قوانينها " مثلما تريد وسط استقالة تكاد تكون جماعية من قبل مؤسسات الدولة التي كان من المفروض أن تكون الجهة الوحيدة التي تحتكر ممارسة السلطة وتنفيذ القوانين على الجميع دون تمييز أو تسلّط .
وفي حقيقة الأمر فإن ما يحدث في قرقنة لا تكفي  كتب ومجلدات لتدوينه . وقد نعود إلى تفاصيل أخرى غريبة وصادمة عن هذا الموضوع الشائك الذي يدلّ على أحد أمرين : إما أن تكون الدولة ضعيفة إلى درجة كبيرة فحيث استباحتها بعض العصابات وفرضت  عليها " أمرها " الواقع  وإما أن تكون الدولة مشاركة في ما يحدث حتى دون علم أكبر أجهزتها  بما أن المشاركة يمكن أن تتم عبر أجهزة صغيرة  ومنفردة لكنها في النهاية تمثّل الدولة وتورّط الدولة .
ومن هنا يمكن القول إنّ ما حدث في قرقنة  قد يرتقي إلى درجة  جريمة دولة بامتياز ذلك أنّ المتسبّب الرّئيسي في هذه المأساة هو امتناع الدّولة عن القيام بواجبها الّذي تنصّ عليه كلّ الدّساتير الوضعيّة والشّرائع السّماويّة ألا وهو حماية الوطن والمواطن في جسده وأمواله وتنقّلاته وفي كل ما يتعلّق به .
والمتتبّع لمسيرة الحكومات المتتالية منذ الثّورة يلمس هذا التّخلّي في الكثير من المواقع والمواطن الّتي سوف نأتي عليها في مناسبات لاحقة (تعطيل السّير العادي للكثير من المؤسّسات الاقتصاديّة الحيويّة و الاستكانة لعصابة ما يسمّى البعض من النقابات التي استقوت بالاتحاد العام التونسي للشغل حتى دون علمه في أحيان كثيرة  وعطاؤها الدور الرئيسي   في تسيير كلّ شؤون الدّولة و تعطيل سفرات القطار والطّائرات ... وآخرها تعطيل الامتحانات في بعض مؤسّسات التّعليم العالي)
ويبدو أن  تخلّي الدّولة عن دورها السّيادي في جزيرة قرقنة كان كليّا وأشدّ وطأة على الأهالي الّذين لا حول لهم ولا قوّة وقد  أجبر الكثير منهم على عدم زيارة الجزيرة إلّا عند الضّرورة القصوى (وفاة أو  عيد... أو أية مناسبة مستعجلة وأكيدة ).
ومن بين المظاهر الّتي تعكس تخلّي الدّولة عن دورها يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
1جرّارات الكيس الّتي تقوم بتجريف البحر وتصحيره ونهب ثرواته على مرأى ومسمعمن  كلّ النّاس.
2 تعطيل الإنتاج بشركة  الطاقة للعديد من المرّات ممّا تسبّب في خسائر للدّولة بعشرات المليارات.
3 رمي سيّارة الحرس البحري في الميناء.
4 تعطيل السّفر من وإلى قرقنة  في العديد من المرّات مع احتجاز المواطنين لساعات في عرض البحر...
ثمّ نأتي الآن  إلى أمّ المهازل (الّتي يمكن اعتبارها  جريمة دولة بامتياز).  فما يسمّى عمليّة "الحرقان" أصبحت في قرقنة صناعة قائمة الذّات . فكيف لهاته الصّناعة الّتي تتطلّب عملا لوجستيا كبيرا (استقبال عن طريق بوّابة واحدة و إيواء لمدّة يمكن أن تصل إلى أكثر من أسبوع لكلّ فوج و إبحار عن طريق ميناءين لا ثالث لهما : ميناء سيدي يوسف وميناء العطايا) أن تزدهر دون الموافقة ولو ضمنيّا من طرف بعض  المؤسّسات الأمنيّة؟؟ وهنا لا بدّ أن نشير أنّ الخلل لا يكمن في المؤسّسة الأمنيّة في حدّ ذاتها ولكن في بعض الأفراد الّذين  يصعب تحديد هوّيتهم ومراكزهم في المؤسّسة الّذين يمدّون عصابات ما يسمّى "الحرّاقة " بكلّ تفاصيل تحرّك المؤسّسات الأمنيّة (كيفيّة ومكان وزمان التّحرّك) ممّا يسهّل لهاته العصابة الاختفاء في الوقت المناسب.
وكيف لهاته المؤسّسة أن لا تتفطّن لشيء والمواطن العادي في قرقنة (خاصّة في ملّيتة والعطايا) يرى بأمّ عينيه وبشكل شبه يوميّ أفواج القادمين بنيّة "الإبحار خلسة" ربّما يعيش غصبا عنه كلّ أطوار عمليّة الإبحار؟
إنّ الكارثة الّتي وقعت في قرقنة و يمكن أن يصل عدد الأموات فيها لما يفوق المائة هي مأساة لا يمكن للكلمات أن تعبّر عنها و عن عمق الحزن الّذي ينتابنا ونحن نرى أهالي الضّحايا (ونحن منهم باسم المواطنة) قد أفطروا على أشلاء أبنائهم وتناولوا سحورا بنكهة دمائهم.
نحن لا نوجّه كلامنا إلى هاته الحكومة العاجزة حتّى عن  القيام بواجباتها الفطريّة  فما بالك بواجباتها الّتي تتطلّب إدارة وتدبير وتنفيذ ؟.  ولكن نوجّه كلامنا لأبنائنا وفلذات أكبادنا ونقول لهم إنّ العصابات المنظّمة للإبحار "خلسة" ليست  سوى  مجموعات من مصّاصي دماء يبحثون عن المال بكلّ الطّرق ولو على أشلائكم .  فهم يخطّطون لكلّ تفاصيل الرّحلة الّتي ستمكّنهم من أوفر الكسب : كيف تبدأ الرّحلة ؟ كيف يجب أن تنتهي في بعض الأحيان بالغرق بعد بضع ساعات فقط من بدايتها ؟ هل يجب التّضحية بقائد المركب أم لا ؟؟ ومن سيتلقّفه إن قرّرت العصابة عدم التّضحية به ؟...
ج – م  

التعليقات

علِّق