ظاهرة " الحرقة " لا أحد ينكرها ولا أحد ينكر أن من أهم أسبابها انسداد الأفق أمام الكثير من الناس خاصة من الشباب وتصوّرهم أن ما يوجد على الضفّة الأخرى من البحر أفضل مما يوجد في تونس.

لن  أناقش كثيرا هذه الظاهرة التي لا تكفي كتب ومجلدات للغوص في أعماقها وتفسيرها . فقط أردت أن ألفت الانتباه إلى أمرين اثنين على الأقل وهما :

- تعمد أطراف عديدة في كل يوم وفي كل حين إلى نشر صور مختلفة ...بعضها صحيح وبعضها مفبرك ليس إشفاقا على من ركبوا البحر وأهواله  وإنّما ليصوّروا أن تونس بلد " حرم " فيه العيش وأصبحت الهجرة السريّة  بالتالي  الحل الوحيد للخروج من الأوضاع الصعبة.

- بعض الأولياء رجالا ونساء باتوا يتعمّدون حمل أطفالهم معهم في  رحلات الموت التي لا أحد يمكن أن يتنبّأ بمصير من يقومون بها . وهذا بيت القصيد بالنسبة إليّ.

قد نظلّ نحكي عن وضع البلاد أعواما طويلة وقد نتّفق وقد نختلف في التقييم أو الحلول . لكن هل يوجد فيكم من يعطيني سببا واحدا يجعل أي شخص مهما كان يصطحب معه ابنه أو ابنته في رحلة الموت ويعرّضه بالتالي عمدا ومع سابق الإصرار إلى أخطار البحر والرعب والموت؟.

وبالرغم من أن مسألة  التصرّف الشخصي في الجسد مسألة ما زالت فلسفية  ومثيرة  لنقاشات عديدة فإن ما لا يختلف فيه اثنان أنه ليس من حق أي شخص حتى لو كان الوالد أو الوالدة أن يتصرّف في جسد طفل ويعرّضه إلى الموت ... وقد حصل الموت فعلا في مرات عديدة لعلّ ما يذكره الناس منها حادثة الغرق التي تعرّضت لها أستاذة مع ابنها الطفل حيث انتهت بهما رحلة المجهول إلى الموت غرقا .

وإذا اعتبرنا أن الأم رحمها الله على كل حال مسؤولة عن نفسها فهل كان من حقّها أن تصحب ابنها ليلقى نفس المصير وهو الموت؟. وإذا اعتبرنا كذلك أن  والد هذا الطفل الذي يتم الترويج لصورته بما تحمل من معاني الطفولة وربما الفقر والحاجة مسؤولا عن نفسه فهل من حقّه أن يصحبه معه إلى حيث الموت المتربّص بالجميع؟.

لا تقولوا لي إن الظروف  هي التي تحكم وغنها تفرض على البعض أن يصحب العالم كلّه معه لو اقتضى الأمر لأن المهم  هو الهجرة من البلاد نحو فضاء قد يكون أفضل ... فأنا شخصيّا لا تقنعني  أسباب الدنيا كلّها ولا أستوعب أبدا أن يرمي أب أو أم بابنه أو بابنها إلى الموت بهذا الشكل ثم عندما يقدّر الله ما يشاء يصبح " المجرمون " ضحايا ... ويرمي جماعة  الفايسبوك وحقوق الإنسان كامل المسؤولية على الدولة .

صحيح أن الظروف صعبة على الجميع وأن على الدولة بوصفها مسؤولة عن الشعب أن تبحث عن الحلول التي تعيد الأمل للناس فيعدلون عن ركوب قوارب الموت ... لكن صحيح أيضا بل الأصح أن نلقي اللوم الشديد على كل شخص يحمل معه قاصرا في رحلات الموت... وفي الحقيقة ليس اللوم فقط لأنه لا يكفي . بل يجب أن يعاقب كل من يحمل معه طفلا  في رحلة " حرقة " عقابا شديدا عسى أن يكف الناس عن التفكير في حمل الأطفال إلى المجهول.

أخيرا أقول لكلّ من ضاقت به السبل وقرر أن يهاجر خلسة : لك جسدك فافعل به ما تشاء ... إذا اخترت المغامرة وربّما الموت فلك ذلك وليكن مصيرك الذي اخترت . لكن يجب أن تعلم أنك إذا حملت معك طفلا صغيرا فإنما تقترف جريمة لا تغتفر.

جمال المالكي