نحو استراتيجية تنموية مدمجة : أهمية المقاربات المتعددة الأبعاد

نحو استراتيجية تنموية مدمجة : أهمية المقاربات المتعددة الأبعاد

بقلم: محمود سامي نابي
أستاذ جامعي، جامعة قرطاج


الحاجة إلى منهجية متعددة الأبعاد لحقيق تنمية مدمجة
يعود النقاش حول النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية، إلى أوائل السبعينات من القرن العشرين. ويُعدّ المسار الاقتصادي التونسي، أحد مظاهر المسارات التي طغى فيها، منذ التسعينات، هاجس النمو الاقتصادي على الأبعاد التنموية. وإذا ما نظرنا لذلك المسار من خلال "وفاق واشنطن" (consensus de Washington)، فإنه خوّل لتونس أن تُصنف من بين أفضل البلدان أداءً في إفريقيا، وفي منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط(MENA) . فلقد حققت البلاد معدل نمو سنوي بلغ 4.75٪ خلال الفترة المتراوحة بين 1990و 2010، وبنت أسسا اقتصادية كلية (fondamentaux macroéconomiques) قوية. واُعتبر الاقتصاد التونسي ناجحا من عديد المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالرغم من الاهتمام المتزايد، منذ أواخر التسعينات، بمشكلة البطالة (وخاصة لدى حاملي الشهائد الجامعية) وتردّي صلابة النظام البنكي.

وتكمن المشكلة في أن "وفاق واشنطن" لم يول اهتماما يذكر للبعد الإدماجي للنمو، وكذلك لمدى جودة البيئة المؤسساتية . ويشير ستيغليتز (Stiglitz, 1998) إلى أن استراتيجيات التنمية، القائمة على "وفاق واشنطن"، تركز على المنحى الاقتصادي فقط (مهتمة بزيادة رأس المال، وتحسين تخصيص الموارد)، حيث كان يُنظر إلى التنمية (على الأقل من قبل الاقتصاديين المؤثرين على مدى أكثر من أربعة عقود)، على أنها مسألة اقتصادية بشكل أساسي. ويرى أنه حتى الاختلاف بين اقتصادي الفكر اليساري واليميني، فإنه كان لا يتجاوز ماهية دور الدولة في الاقتصاد وأفضل السبل لتحسين توزيع الموارد...لذلك، ليس من المستغرب، أن الديناميكية الاقتصادية لدولة نامية، مثل تونس، لم تكن مدمجة لكافة شرائح المجتمع، وتباطأت تدريجيا، مما أدّى إلى تفاقم الفجوة الاقتصادية والاجتماعية، والفوارق على المستوى الجهوي والقطاعي. ومن الواضح، أن اضطراب آليات السوق، وسلوكيات الريع، وانتشار الفساد، والرأسمالية المبنية على المحسوبية، أضرت إلى حد كبير بالاقتصاد التونسي. ولذلك، فإن نظرية "التقاطر إلى تحت" (Théorie du ruissellement)، أبعد من أن تكون متلائمة مع الحالة التونسية، حيث غاب النمو الاقتصادي المدمج. ويتطلب الوضع الحالي لتونس استراتيجية تنموية، مرتكزة بصفة مترابطة على أبعاد عدّة في علاقة بالمؤسسات، والسياسة، والاقتصاد، والأفراد. وليست صياغة مثل هذه الاستراتيجية وتنفيذها، بالمهمة السهلة في فترة الانتقال السياسي الحالية.

وبما أن الاقتصاد والسياسة مترابطان، بشكل قوي، فنحن بحاجة، إلى دعم تصوراتنا بمقاربات تنموية متعددة الأبعاد، تأخذ بعين الاعتبار هذا التعقيد. ولذلك أقدم في الفقرات التالية ثلاثة مقاربات لاستراتيجيات تنموية متعددة الأبعاد، يمكن الاستئناس بها في الحالة التونسية (وهي لكلّ من  1. كابلان وفريمان، 2. ابن خلدون، 3. ستيغلتز).


منهجية كابلان وفريمان لتحقيق انتقال مدمج
اقترح كابلان وفريمان (Kaplan and Freeman, 2015) منهجية متعددة الأبعاد لبناء نظام مدمج، خلال فترات الانتقال السياسي للدول الهشة والمجزأة (يلخص الشكل رقم 1 تصورهما لشتى أبعاد منهجية الانتقال المدمج).   ويرى الباحثان أن نجاح المسار الانتقالي يتطلب معالجة مختلف الممارسات السيئة (اقتصادية، سياسية، إدارية، قانونية، أمنية، اجتماعية – ثقافية) المتجذرة في الدولة والتي أسفرت الصراعات والإقصاء الاجتماعي. وحيث يتعارض مسار الانتقال المدمج مع مصالح المجموعات التي تمتعت بميزات من الوضع الأول، يرى الباحثان أنه لا مناص من تحقيق حلول جزئية في بعض الأحيان، خاصة في المسائل المتعلقة بكيفية تقسيم السلطة والموارد بشكل منصف. بيد أن سرعة الوصول إلى تلك الحلول، وإيجاد توافق حول الإصلاحات الضرورية، مرتبطة بمدى التقدم في المسار السياسي، وولادة ديناميكية اقتصادية جديدة، بما يؤدى إلى تحسّن الثقة في العملية الانتقالية وفاعليها. ومن المفيد أن أشير لتحليل لانت بريتشيت (Lant Pritchett) عندما أكد أنه لا يمكن للإصلاحات الاقتصادية أن تنجح، دون احتضانها بمساندة شعبية، من خلال القوى المؤثرة في المجتمع (Clappison,2011).

لهذا السبب، يجب تعزيز التماسك الاجتماعي، خلال المرحلة الانتقالية. وتقع هذه المهمة بشكل رئيس، على عاتق القادة السياسيين، حيث لابد لهم أن يُمتّنوا انصهار مختلف أطياف المجتمع والأطراف الفاعلة فيه، حول مشروع وطني جامع. لذلك فإنه من الضروري التركيز على السياسات التي تٌجمّع بين الناس، حول مجموعة مشتركة من الأهداف، والضوابط، والقواعد، وعلى رؤيا حالمة، من أجل إطلاق ديناميكية البناء والتعاون في إطار السلم الاجتماعي. ويلفت كابلان وفريمان (Kaplan and Freeman, 2015) الانتباه أيضًا إلى وجود تهديد خطير، بإمكانه تقويض نجاح عملية الانتقال، ألا وهو تفاقم الفساد. وفي هذا الصدد، فإن ثقة الشعب في النخبة الحاكمة وشرعيتها، تتأثر بصفة كبيرة بشبهات الفساد التي قد تطالها. كما يشير الباحثان كذلك إلى أهمية صياغة مسار انتقالي مدمج، حتى بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على الاستفادة من النظام السياسي السابق. والهدف من ذلك هو تجنيب البلاد إقصاء مجموعة جديدة من المسار الانتقالي، وهو ما من شأنه أن يزيد في تقوية القوى السلبية التي تًقوّض عملية إرساء الديمقراطية.

 


دروس من نظرية التنمية لابن خلدون
أتعرض هنا إلى الإطار التحليلي الثاني، ذي الأبعاد المتعددة، وهو لابن خلدون (1332 - 1406) الذي ضمنه في مقدمته  في إطار تفسيره لظاهرة صعود وانحطاط الممالك و الحضارات. ويشير شابرا (Chapra, 2008) إلى أن ابن خلدون لم يحلل التطور والانحدار بالاعتماد على العوامل الاقتصادية لوحدها، بل إنه لجأ إلى دراسة العلاقات المتداخلة بين العوامل الاجتماعية، الأخلاقية، الاقتصادية، السياسية، التاريخية، والديموغرافية، التي من شأنها أن تؤدي إلى صعود المجتمعات وانحطاطها. وقد مكن هذا الإطار التحليلي متعدّد الأبعاد ابن خلدون من فهم مقومات استدامة التنمية، والفوارق بين الدول من حيث مسارات تطورها. ويبين الشكل رقم 2 العجلة الحضارية لابن خلدون، والتي ترتكز على التفاعل الديناميكي السّببي بين العوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، الهامة بعضها ببعض: الحوكمة في ظل النظام السياسي (G)، المعتقدات والقيم السلوكية (S)، الأفراد (N)، الثروة أو المخزون من الموارد (W)، التنمية (D) والعدالة (J). وإذ يمكن تحفيز التنمية(D)  في بلد ما، بعامل من العوامل، إلا أن استدامتها لا يمكن أن تتحقق، بدون انبثاق التفاعل الإيجابي لمختلف العوامل الأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية، والديمغرافية، دافعة بذلك عجلة الازدهار الحضاري.

 


وبعد 2011، توقع الكثيرون أن تبدأ تونس دورة حضارية جديدة، ناجمة عن تحسين النظام السياسي وإطار الحوكمة (العامل "G"). وقد كان من المؤمّل، أن يتقلص الفساد تدريجياً، وأن يتحسن التصرف في الموارد العامة لصالح التعليم، والصحة، والقضاء، وبناء البيئة المؤسساتية الملائمة للتنمية. ولكن، وللأسف، توسع الفساد بعد الثورة، وتقدمت الإصلاحات المؤسساتية بنسق بطيء. وستبين لنا الأجزاء التالية، أن مثل هذه الدورة الحضارية لا يمكن لها أن تظهر في تونس بدون تسريع بناء المؤسسات السياسية والاقتصادية المدمجة.

 


التنمية المدمجة من منظور ستيغلتز
أكد جوزيف ستيغليتز (Joseph Stiglitz) على إمكانية صياغة سياسات اقتصادية تمكن من الجمع بين نسبة نمو عالية و زيادة الكفاءة الاقتصادية من ناحية، والتقليص من تفاوتات الثروة  وعدم المساواة في الفرص، من ناحية أخرى . ومنذ شغل خطة كبير الاقتصاديين بالبنك الدولي، دعا ستيغليتز سنة 1998، إلى ضرورة اتباع منهجية ديناميكية للتنمية. فهو يرى أن تغيير المجتمع يتطلب طرق تفكير "علمية" لتحديد القيود (على أساس البيانات المتاحة)، لتصور علاقات جديدة، ولاتّباع طرق جديدة للإنتاج وللإدارة. ولا يمكن لهذه الديناميكية أن تنبثق دون اتباع نهج تشاركي، لتحديد الرؤية المجتمعية (المجتمع في عشر أو عشرين سنة على سبيل المثال)، وتحديد الأهداف (الكمّية) المنشودة. ويلاحظ أنه لا بد من صياغة استراتيجية تنموية جديدة، لا تؤدي فقط إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، ولكن أيضا إلى رفع مستويات الرفاه الاجتماعي في علاقة بالصحة ومحو الأمية، الحدّ من الفقر، وتحسين جودة المحيط. ولا يمكن لذلك أن يتحقق بدون تحولات مجتمعية حقيقية تمكن من صياغة سياسات مستديمة، تصمد أمام التغيرات السياسية المصاحبة للعمليات الديمقراطية.
ولا يتجاهل ستيجليتز دور المؤسسات في التنمية، فبدلا من اعتبارها ثابتة، يرى أنها يجب أن تتطور بصفة ذاتية، كجزء من عملية التحول المجتمعي. وحيث من الطبيعي أن تضعف المؤسسات التقليدية، فإنه لابد من استبدالها بمؤسسات جديدة، مدعومة بالرأس المال الاجتماعي وبالقدرات الجديدة. وعلى العكس من ذلك، يرى أن استراتيجيات التنمية المستمدة من "وفاق واشنطن" ركزت على الخوصصة، بدون إيلاء الأهمية الكافية، لبناء المؤسسات الضرورية لكي تنجح الأسواق في القيام بدورها في اقتصاد السوق. ويمكننا القول إن نظرته للاستراتيجية التنموية، بتفاعل أبعادها المتعددة، تتناغم مع نظرية التنمية لابن خلدون. فستيغليتز يركز على التفاعل بين خمس مكونات (مستويات) من الاستراتيجية التنمية: الفرد، الأسرة، المجتمع المحلي، القطاع الخاص، والدولة (القطاع العام) (انظر الشكل 3).

 


ومن هنا، فإن صياغة آليات تنسيق فعّالة بين الوزارات والوكالات العمومية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، أمر حاسم للنجاح في تنفيذ استراتيجية التحول. ويعطي ستيغليتز في نظرته للاستراتيجية التنموية، مكانة مهمة للرأس المال الاجتماعي/التنظيمي لدوره في صياغة نوعية التغيير، وسرعة إنجازه. وهو يشمل المؤسسات والعلاقات التي تقوم بدور الوساطة وتسوي النزاعات. وتستند منهجية ستيغليتز لبناء استراتيجية تنموية على المستويات الخمسة المذكورة أعلاه (المكونات) وكذلك على الأركان التالية:

 

 

ويشير بيتمان (Pittman, 2009) أن قبول مسار التحول ونجاح الإصلاحات الاقتصادية، يتطلب من هذه الأخيرة حماية الفئات الضعيفة، إيجاد حلول للبطالة وضعف الولوج للفرص الاقتصادية، والتفاوتات في توزيع الدخل، بالتوازي مع دعم آليات السوق. ومن هنا تتجلى أهمية أن تنطوي استراتيجية التنمية على ركن خاص بالمناطق الريفية التي تعاني من مستويات تنمية متدنية، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد المتعددة (الفقر، والبطالة، والبنية التحتية، والاستثمار، وما إلى ذلك). وبالإضافة إلى الأركان المذكورة أعلاه، فإنه على استراتيجية التنمية أن تحدد الأولويات ومخططات الإنجاز، وبالأخصّ تحديد التسلسل المنهجي للإجراءات التي يجب القيام بها. فمن الضروري على سبيل المثال، تطوير منظومة المنافسة النزيهة والإطار القانوني اللازم قبل القيام بخصوصة الشركات العمومية. وكذلك الحال بالنسبة لتحرير سوق المال على مستوى العمليات الداخلية والخارجية، فإنها تتطلب تطوير الإطار القانوني والرقابي الملائم.

التعليقات

علِّق