لا يحدث إلا في تونس : ما معنى أن تفرّط الحكومة في " وكالة التبغ " رغم أنها رابحة ؟
أمام الصمت الرهيب الذي التزمته الحكومة إزاء كافة " الاتهامات " الموجّهة إليها بالعزم على التفويت فعلا في عدد من المؤسسات العمومية استجابة وخضوعا لشروط صندوق النقد الدولي وإملاءاته بات الكثير من الملاحظين شبه مقتنعين بأن " الإشاعات " لم تعد إشاعات وإنما حقيقة ستكشفها الأيام القادمة خاصة إذا علمنا بأن صندوق النقد الدولي وعد بأن ينشر النص الكامل للاتفاق مع الجانب التونسي أي أن الحكومة التونسية التي أخفت كل شيء على الشعب وعلى شركائها الاجتماعيين لن يكون باستطاعتها أن تخفي شيئا بعد نشر نص الاتفاق.
ومن الناحية المبدئية والمنطقية نعرف جميعا أن التفويت في أية مؤسسة ( عمومية أو خاصة ) لا يتم عادة إلا إذا كانت تمرّ بصعوبات كبيرة وكثيرة ولا مجال لتداركها وتجاوزها أي لا مجال ولا أمل في إصلاح تلك المؤسسة وإعادتها إلى سالف نشاطها. وبما أن الغرائب والعجائب أصبحت للأسف الشديد لا تحدث إلا في تونس فنحن نتساءل اليوم ما الذي يدفع الدولة ( ممثلة في الحكومة ) إلى التفويت في الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد على سبيل المثال؟. فهذه المؤسسة تمثّل أحد أهم مجالات احتكار الدولة حيث لا ينافسها أحد. ويعرف العالم كلّه أن قطاع التبغ ( إضافة إلى الوقيد واستعمالاته وألعاب الورق ) قطاع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسجّل خسارة سواء في ما يتعلّق بالإنتاج المحلّي أو بالإنتاج المستورد. وهذه الوكالة بالذات ظلّت لعشرات العقود أحد أهمّ وأكبر مموّل لخزينة الدولة وهي بالتالي تمثّل رقما صعبا ومهمّا في ميزانية الدولة حتى في أسوأ الحالات ونعني بأسوأ الحالات السنوات التي لا تحقق فيها أرباحا كبيرة مثلما ينتظر منها.
ولسائل أن يسأل : بأي منطق وأي تفكير تقرر الدولة التفويت في مؤسسة ما فتئت تحقق الأرباح وقد أكّد الطرف النقابي أن لها القدرة دائما على تحقيق نتائج إيجابية وأن أرباحها الصافية بعنوان السنة الماضية مثلا 98.7 مليون دينار دون اعتبار العائدات الجبائية التي حققتها الدولة ؟.
إن هذه المؤسسة التي يعود تأسيسها إلى سنة 1891 لا تشكو من صعوبات مالية أو قلّة موارد مالية أو بشرية وهي تشغّل اليوم نحو 1480 عاملا بالإضافة إلى 6 آلاف متدخل يتعاملون مع المؤسسة وأكثر من ألف شخص بالقطاع الفلاحي. هي تشكو منذ قديم العصور من سوء التصرّف سواء من داخلها أو من خارجها وكلّنا يعرف كيف كانت بعض الأطراف القريبة من السلطة في عهد بن علي تتحكّم فيها وتغرق البلاد بالسجائر المهرّبة التي كان بعضها يدخل إلى الوكالة ثم يخرج منها مطبوعا ( على أساس أنه دخان تونسي ) والحال أنه " مضروب " ويأتي عن طريق التهريب.
وعوض أن تبحث الدولة عن معالجة داء سوء التصرّف الذي ما زال ينخر المؤسسة إلى اليوم رغم رحيل الأطراف الناهبة مع رحيل بن علي ونظامه فتضع خطّة حقيقية واضحة لإنقاذ مؤسسة تدرّ على خزينتها سنويّا أكثر من ألف مليار فإنها اختارت على ما يبدو أن تصفع نفسها بنفسها مبدية آيات الولاء والطاعة لصندوق النقد الدولي ومنفّذة ما تريده بالضبط بعض الأطراف المتربّصة بهذه الوكالة وغيرها من المؤسسات الأخرى للانقضاض عليها وشرائها.وهذا يدخل في إطار سياسة قديمة ومعروفة ملخّصها : إذا أردت أن تفوّت في مؤسسة فاضرب صورتها حتى تتآكل ... وابق وراءها حتى يبدو عليها بوادر المشاكل والإفلاس ... بعد ذلك فرّط فيها بأبخس الأثمان فلن يلومك أحد...
جمال المالكي
التعليقات
علِّق