عندما يتحالف " الديوان الوطني للتلويث " مع " وزارة القضاء على البيئة " لتدمير شواطئنا ؟
أثار برنامج " الحقائق الأربع " في سهرة الأمس موضوعا قديما متجدّدا وهو موضوع التلوّث الذي بات يؤرّق العديد من سكان المناطق الساحلية التي تشهد عاما بعد عام " شهداء " جددا من الشواطئ التي لم تعد السباحة فيها ممنوعة فقط بل أصبحت تمثّل تهديدا كبيرا لصحة الناس .
ولم يعد الموضوع يهمّ سكان الضواحي الجنوبية للعاصمة أو سكان قابس وصفاقس الذين ما زالوا منذ عشرات السنين يصرخون ويطالبون الدولة بإيجاد الحلول لهذه الكارثة المستفحلة بل صار يشمل شواطئ أخرى ما زال الكثير من التونسيين يعتقدون أنها " من أجمل الشواطئ التونسية " وهي اليوم في حالة تعيسة جدا ومنها على سبيل المثال شواطئ قليبية وحمام الغزاز والهوارية وسيدي داود ( القريبة من الهوارية ) ومنزل تميم ونابل ... وغيرها من الشواطئ التي " كانت " جميلة وجذابة فأصبحت اليوم بفعل فاعل ( وربما أكثر من فاعل ) مصدر قلق وأمراض وكوارث.
لن أعيد ما ذكره المواطنون في البرنامج المذكور لأن كل ما يمكن قوله قيل في هذا الموضوع إلى درجة أن البعض ممّن ظلّوا يصرخون منذ حوالي 20 سنة أو أكثر أصابهم اليأس فرفعوا أيديهم إلى السماء وأصبحوا يكتفون بالدعاء.
وفي المقابل سأكرر القول وأعيده خاصة في ما يتعلّق بالمسؤولية المباشرة في ما آلت إليه الأوضاع في هذه الشواطئ. فمن الغرائب التي لا تحدث إلا في تونس أن يتحوّل الديوان الوطني للتطهير إلى ديوان تونسي للتلويث المباشر والمقصود وأن تتحوّل وزارة البيئة التي أحدثت للمحافظة على نظافة محيطنا بما فيه الشواطئ إلى وزارة مدمّرة للبيئة تساهم بصفة مباشرة أو غير مباشرة ( من خلال صمتها المريب ) في تنغيص حياة الناس وحرمانهم من أبسط حقوقهم التي صادقت عليها الدولة التونسية مع المنظمات الدولية وهو حقهم في الحياة في محيط نظيف وسليم.
إن ما يقترفه " ديوان التلويث " بالتواطؤ مع وزارة تدمير البيئة جريمة بشعة في حق كافة التونسيين .هي جريمة بكل المقاييس ولا شيء يبرّرها على الإطلاق . وبالرغم من وضوح الرؤية وتوفّر أركان الجريمة ما زالت اللغة الخشبية سائدة إذ جاءنا ممثل عن الديوان المذكور في البرنامج المذكور بعذر أقبح من ذنب فقال لنا إن الديوان يعرف أنه يلوّث الشواطئ وإن ذلك يعود إلى أن تجهيزاته قديمة ولم تعد تفي بالحاجة بسبب تزايد عدد السكان وعجز محطات التطهير عن استيعاب كميات أكبر إضافة إلى قلّة الموارد المالية التي تمكّن الديوان من إحداث محطات تطهير جديدة وصيانة القديم منها... وغير ذلك من التبريرات الواهية.
ولا يمكن أن يمرّ كلم هذا المسؤول دون أن نبدي فيه الملاحظات التالية :
- إن أي ديوان تطهير في العالم يعرف ومنذ اللحظات الأولى التي يقوم فيها بإنشاء محطات تطهير أن هناك عمرا افتراضيا لتلك المحطات فيستبق الزمن ويخطط لصيانتها وتجديدها وإنشاء محطات جديدة قبل انتهاء عمرها الافتراضي إلا في تونس فإننا ننتظر أن ينقضي آخر يوم من عمرها لنفكّر ( نعم نفكّر ولا ننجز ) في ما سيأتي بعدها.
- إن التعلّل بزيادة عدد السكان وبالتالي مضاعفة كميات المياه المستعملة أمر مضحك لأن هذا الأمر لا يخفى على طفل صغير فما بالك بأشخاص من " الإطارات العليا " الذين يتولّون مبدئيا التخطيط لما يحدث قبل عشرات السنين. وهنا أسأل : هل كان مسؤولو الديوان ومديروه يعتقدون مثلا أن عدد سكان مناطق ما سنة 2000 سيكون هو نفسه سنة 2020 ؟.
إن التعلّل أيضا بقلّة الإمكانات الماليّة أمر مردود على أصحابه . فالمواطن التونسي يدفع للديوان ( من قوت أبنائه ) مبالغ قارّة أغلبها غامض ومبالغ فيه ... وحتى أولئك الذين لا يرتبطون بشبكات التطهير فهم يدفعون . فأين تذهب إذن تلك الأموال الرهيبة التي تفرض فرضا على التونسيين الذين يعرفون منذ قديم العصور أنهم يدفعون أموالهم مقابل خدمات ضعيفة أو غير موجودة أصلا؟؟؟.
- لقد سمعنا ممثلين عن ديوان التلويث في أكثر من مرة وهم يقولون لنا " لقد برمج الديوان كذا محطات تطهير باعتمادات قدرها كذا ... وسوف ينطلق العمل بها سنة كذا ..." لكن الحقيقة أن هذا " الكذا " مرّ منذ سنوات عديدة ولم يبق الحال على ما هو عليه فحسب وإنما استفحل أكثر فأكثر إذ أصبحنا في كل عام جديد نخسر شواطئ جديدة.
- لقد تعاقبت حكومات عديدة وعدت كلّها بإيجاد الحلول لهذه المعظلة الأزلية لكّن اتضح أن كل الحكومات كانت كاذبة إما لأنها عاجزة عن إيجاد الحلول وإما لأنها تحترف الكذب وتقوم بترحيل المشكل إلى من سيأتي بعدها . لكن لعلّ الغريب في الأمر أن ديوان التلويث ووزارة تدمير البيئة لم تكن لهما الجرأة في عهد بن علي مثلا على التصرّف بهذا الشكل لأنهما يعرفان العقاب الذي ينتظرهما . وفي الوقت الذي تحرر فيه التونسيون من القيود وظنّوا أن مؤسسات الدولة ستعمل لفائدة المواطن والدولة جاءت هذه المؤسسات لتكشف عن خور كبير وعن حقيقة لا نقاش فيها وهي أن مصلحة المواطن والدولة هي آخر ما يشغل بال الكثير من مؤسسات الدولة.
وبناء على ما سبق أصبح واضحا اليوم أن الأمر لم يعد يحتمل أكثر مما احتمل. ولعلّ القضاء بات اليوم طرفا في هذه المسألة باعتبار أن العديد من منظمات وجمعيات المجتمع المدني قدّمت شكاوى عديدة من أجل وضع حد للكارثة لكن للأسف الشديد لم نسمع مطلقا أن القضاء نظر في إحداها على الأقل فألزم الطرف الملوّث بإصلاح الأمور وإيجاد حلول تقضي على المشكل من جذوره.
وقد بات أيضا محمولا على الحكومة وعلى رئاسة الجمهورية أن يتدخّلا فورا لوضع حدّ لاستهتار دام عشرات السنوات من قبل ديوان التلويث ووزارة تدمير البيئة . وإذا لم يكن التدخّل من أجل حفظ حق المواطن فليكن من أجل حفظ حق الدولة في شريط ساحلي كان يمثّل قوة اقتصادية مهمّة جدا من خلال الجذب السياحي فأصبح اليوم مشكلة كبرى ل تشجّع السياح على القدوم إلى بلادنا إلى جانب أنها تقهر ساكني المناطق الملوّثة " بفعل فاعل " الذين أصبحوا يشاهدون بأعينهم ويموتون بقلوبهم مثلما يقال في الأمثال.
جمال المالكي
التعليقات
علِّق