"دين أبوهم إسمو إيه؟"
بقلم محمد اليوسفي
لم يسبق للبلاد أن شهدت درجة عالية من التعفن السياسي منذ الثورة مثل الذي عشنا على وقعه خلال حكم حركة نداء تونس والحرب الطاحنة بين شقوقها. تسريبات وفضائح وضرب تحت الحزام أُستعملت فيه كلّ الوسائل بما في ذلك الأساليب اللاأخلاقية التي تنمّ عن ثقافة سياسية بعيدة كلّ البعد عن المعترك الديمقراطي المنشود.
ولعلّ آخر فصول هذه المعارك غير النزيهة واقعة الفيديو المسرّب لرئيس اللجنة المركزية لنداء تونس (شقّ الحمامات) سفيان طوبال عضو مجلس نواب الشعب الذي على قدر ما نختلف معه في المنهج السياسي والفكري، إن وجد، وندين جلّ سلوكاته ومواقفه وكلّ ما يحوم حوله من شبهات فساد واستغلال نفوذه البرلماني، فإنّنا لا يمكن قطّ أن نسقط في المهاترات الأخلاقوية التي أضحى أصحابها بين عشيّة وضحاها قديسون من أهل النقاء والصفاء ومن منهم بلا خطيئة فليرمه بحجر.
لم يسبق للبلاد أن شهدت درجة عالية من التعفن السياسي منذ الثورة مثل الذي عشنا على وقعه خلال حكم حركة نداء تونس والحرب الطاحنة بين شقوقها
يثير الجدل الدائر حول مختلف المواقف وردود الفعل من شريط الفيديو المسرّب بشكل غير اعتباطي على ما يبدو من حيث التوقيت والأهداف السياسية إشكالية قديمة جديدة. تتعلّق هذه المسألة أساسًا بالتخوم الفاصلة بين الحياة الخاصة والحريات الفردية للشخصيات العامة من جهة والشأن العام من منظور مصلحة عموم المواطنين والمال العمومي والحوكمة الرشيدة في مناخ ديمقراطي من جهة أخرى.
لن نأتي بجديد حينما نقول إنّ هذه القضيّة ليست الأولى من نوعها التي تثار في المجال العمومي منذ الثورة في علاقة بشخصية عامّة من الحياة السياسيّة. فقد سبق أنّ شهدنا انقسامًا في المواقف والآراء إبان حكم الترويكا يوم أقدمت المدونة ألفة الرياحي على نشر معطيات متعلقة بوزير الخارجية وقتها رفيق عبد السلام القيادي في حركة النهضة فيما عرف بـ"الشيراتون غايت" وهي قضيّة لا يزال إلى اليوم يكتنفها الكثير من الغموض والالتباس بالإضافة إلى الصور التي تمّ نشرها لوزيرة المرأة خلال نفس الحقبة سهام بادي صحبة الإعلامي مقداد الماجري.
كما سبق أن أثارت قضايا أخرى لها علاقة بنواب مثل حسن العماري وصبرين القوبنطيني جدلًا واسعًا على اعتبار أنّ لها علاقة بالحياة الخاصة لشخصيات فاعلة في الشأن العام بقطع النظر عن مدى صحّة الروايات التي قدّمت حولها والهدف منها والتي كثيرًا ما تتجه للتشويه الأخلاقي وتصفية حسابات وتسجيل نقاط بمنطق الغاية تبرّر الوسيلة. فضلًا عن ذلك تابعنا مؤخرًا القضيّة المتعلقة بالعاملة المتربصة في مجلس نواب الشعب والتي كان مدارها اتهامات متبادلة بين النائب ياسين العياري والمكلف بالإعلام في البرلمان حسان الفطحلي.
في حقيقة الأمر مثل هذه القضايا عادة ما تثير حساسية مفرطة لدى الرأي العام حتّى في الأنظمة الديمقراطية العريقة وفي المجتمعات الأكثر تحرّرًا في العالم. غير أنّ الملفت للانتباه في قضيّة الفيديو المسرّب لسفيان طوبال هو توجيه أصابع الاتهام لإطار سام بوزارة الداخلية بالتواطئ في هذه العملية وهو معطى خطير يكشف بشكل واضح حجم التلاعب بمؤسسات الدولة التي باتت مستباحة في معارك سياسوية قذرة لا علاقة لها بالمصلحة العامة للتونسيين. وهي تنبئ أيضًا بمؤشرات مفزعة حول المناخ الانتخابي والمنظومة القيمية المهترئة والملوثة صلب الطبقة السياسيّة بشكل عام وخاصة داخل شقوق نداء تونس ومشتقاته الموروثة عن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي سيئ الذكر.
لا شكّ في أنّ مثل هذه الممارسات ستزيد في ترذيل قيمة السياسة وصورة السياسيين لدى الرأي العام. فاختراق الحياة الخاصة ومحاولة توظيفها في معارك غير شريفة يحاول البعض تصويره على أنّه سلوك عادي والحال أنّ تداعياته الممكنة لا تمس فقط جهة سياسية بعينها بل هي ستضفي مشروعية على أصحاب المواقف والتوجهات العدمية والمتطرفة التي تلقي بالجميع في سلّة واحدة بغية خلط الأوراق وصبّ الزيت على النار. ومن غير الممكن تبرير مثل هذه السلوكات المشينة في حقّ الأخلاق السياسيّة حتّى إن كانت صادرة عن أطراف حزبية أو إرادات فردية فما بالك حينما يتعلق الأمر بتوظيف لمسؤولين وأجهزة في الدولة لضرب خصوم سياسيين.
الملفت للانتباه في قضيّة الفيديو المسرّب لسفيان طوبال هو توجيه أصابع الاتهام لإطار سام بوزارة الداخلية بالتواطئ في هذه العملية وهو معطى خطير يكشف بشكل واضح حجم التلاعب بمؤسسات الدولة التي باتت مستباحة في معارك سياسوية قذرة
لقد تحوّل الصراع في ظلّ منظومة حكم حزب نداء تونس بمختلف فروعه وإفرازاته إلى مستنقع سياسي مثير للقرف. عشنا خلال السنوات الماضية على وقع عديد الفضائح والاتهامات والتسريبات وحملات التشويه التي تمسّ من الأعراض والحياة الخاصة تكاد تتجاوز تلك التي تمّ تسجيلها على امتداد حقبة الاستبداد زمن بن علي حينما كانت وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية تصفي الخصوم السياسيين للنظام بأقذر وأخطر أشكال الممارسات الدنيئة من خلال توظيف صحافة المجاري وعملاء مكلفين بمثل هذه المهام.
قبل واقعة الفيديو الشهير لرئيس كتلة نداء تونس في البرلمان سفيان طوبال التي قد تصبح أشهر حتّى من "واقعة الجمل" في تاريخ الأمّة، كانت صفحات التواصل الاجتماعي على امتداد السنوات الأخيرة مسرحًا لحملات كثيرًا ما تكون منظمة ومدفوعة الأجر لكسب نقاط في حرب التموقع بين فصائل النداء. صور وتعليقات واتهامات وهتك للأعراض وتوظيف لتفاصيل تتعلّق بالحياة الخاصة من أجل الاغتيال الرمزي لكلّ من يصبح يصنّف في خانة العدو أو الخصم حتّى وإن كان من نفس "الدار كبيرة" كما يقولون. يعوّل هؤلاء طبعًا على جمهور المتلقين الذين لا يتورعون عن اعتبار مثل هذه الأساليب فتحًا مبينًا لكشف النقاب عمّا خفي من حقائق ومعلومات.
إذا نحن إزاء ثقافة سياسيّة لها عناوينها وموروث اجتماعي مخز له صدى مجتمعي حتّى لدى بعض النخب التي تعاني من حالة انفصام وأنوميا قيميّة بلغة عالم الاجتماع دوركايم. تحلّل قيمي يمكن أن نستشفه أيضًا في عديد الأخبار والروايات المتداولة في المطبخ السياسي لمنظومة نداء تونس حول علاقات خاصة ومعطيات شخصيّة يتم إشاعتها بين الحين والآخر لتشويه ذاك أو للمسّ من صورة تلك.
إنّ التعفن والتلوث الذي يكتنف المشهد الحزبي الآني في خضم تواصل معركة شقوق نداء تونس التي لاعلاقة لها بكنه الفعل السياسي القائم على إعلاء المصلحة العامة وصراع الأفكار والبرامج والكفاءات يضعنا إزاء مأزق أخلاقي وقيمي بالأساس. فهذا الحزب الذي قدّم نفسه للتونسيين على أنّه سينقذهم من براثن الإسلام السياسي ومنظومة حكم الترويكا بات يشكلّ خطرًا على المسار الديمقراطي كلّل.
لقد بيّنت أزمات حزب النداء للشعب أنّ ما يبنى على باطل فهو باطل فتأسيسه القائم على جمع المتناقضات من كلّ فجّ عميق فقط للإطاحة بخصم سياسي والسطو على مؤسسات الدولة ومغانمها من قبل طغمة من الوصوليين والانتهازيين الذين يشهد ماضيهم وحاضرهم بالخراب والإفساد الذي تسببوا فيه، أدى إلى توريط البلاد ولا نعلم حقيقة بأي ثمن يمكن تخليصها منهم.
إنّ التعفن والتلوث الذي يكتنف المشهد الحزبي الآني في خضم تواصل معركة شقوق نداء تونس التي لاعلاقة لها بكنه الفعل السياسي القائم على إعلاء المصلحة العامة وصراع الأفكار والبرامج والكفاءات يضعنا إزاء مأزق أخلاقي وقيمي بالأساس
قد لا نستغرب مستقبلًا ونحن على أبواب انتخابات مرتقبة حصول حوادث أخرى أشدّ وقعًا وأكثر خطورة من قبل الأطراف المتناحرة داخل منظومة الحكم الحالية المنبثقة عن حزب نداء تونس. إذ يبدو أنّ الفضائح والتسريبات وعمليات التشويه الخسيسية لن تتوقف عند هذا الحدّ. فمثل هذه المنظومات المأزومة قيميًا وأخلاقيًا لا يمكن أن تنتج شيئًا آخر بخلاف الرداءة السياسية المفرغة من أي معنى مضموني مفيد للبلاد والعباد. وعديدة هي الملفات التي قد يتمّ توظيفها بشكل أو بآخر عملا بمقولة: "العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادئ أظلم".
هذه الوضعية المقلقة تجعلنا نتساءل عن آفاق التجربة الديمقراطية بمثل هذه النخب التي ضربت بكلّ ضوابط وأخلاقيات العمل السياسي عرض الحائط دون حسيب أو رقيب. فديمقراطيتنا الناشئة وهي التي مازالت في مرحلة جنينية هشّة يخشى أن تنزلق في مطب الديمقراطيات الشكلانية المشوّهة بالإفلات من العقاب بحيث يصبح كلّ شيء مباح تحت يافطة المكيافيلية في أسوإ تجلياتها واستعمالاتها. فهل يحقّ لنا أن نستأمن أمثال هؤلاء على قوت الشعب ومقدّراته ومستقبل الأجيال القادمة؟
ربّما قد تكون الانتخابات المقبلة فرصة سانحة للناخب التونسي لكي يقول كلمته الفصل تجاه هذا الوضع الذي يندى له الجبين بسبب حصيلة حزب النداء وملله ونحله المتناحرة التي شوّهت الحياة الديمقراطية وعمّقت أزمة ثقة المواطن في الطبقة السياسية وجعلت أجهزة الدولة مستباحة لتصفية الحسابات وتحقيق مآرب لا موضوعية بأساليب غير أخلاقية. لكن قبل الوصول إلى ذلك وهو أمر ليس بعيد التحقّق والمنال، من المهم أن نسأل عن طينة هذا الرهط من السياسيين على طريقة الشاعر المصري جمال بخيت: "دين أبوهم إسمو إيه"؟
منقول من موقع ultratunisia.ultrasawt.com
التعليقات
علِّق