حصــالة ثمــانية حكــومــات متعاقبة و مشروع قانــون مالية جــائر: لم نستطع القضــاء على الفقر، سنحــاول القضــاء علــى الفقراء !

مفزعة هي وضعية الطبقة الوسطى و الطبقة الضعيفة في تــــونس و التي لم تنفك الحكومــات المتعاقبة منذ ما اصطلح البعض على تسميته بــ "الثورة" على مهاجمتهــا هجومــات شرسة و متتالية لا تعلن عن نفسهــا تحت غطــاء القانون و في مقدمتهم قوانين المالية التي اتخذت منذ ديسمبر 2013 منعرجــا خطيرا أصبحت بموجبه عصــا غليظة تضرب العائلات في عقر منازلهم و تسلط عليهم ما لا يقدرون على تحملّه و "على كل لون ممــا شاءت الآلهة". من العجيب فعلا أن سواد الشعب عندمـا تظــاهر أواخر سنة 2010 طالب بلاده بأخذ ظروف معيشته بعين الرحمة، و هــا أن البلاد بعد خمس سنوات "خلت" تصفّى حســاباتهــا مع من انتفض عليهــا و تنتقم منه أشرّ انتقام...
قانون المــالية و مقصلة آخر السنة
مهــولة هي الزيادات في الأسعــار التي وقعت في بلادنــا بعد أحداث 2011. لم تستثني هذه الزيادات أي ميدان في مسح شامل لكل القطاعات تجارة بتجارة، خدمة بخدمة، مادة بمادة في تتالي محموم لم تستطع السلطة و لا الأحزاب الحاكمة و لا المعارضة ردعه ممــا حوّل حياة المواطنين إلى جحيم زاد في اصطلاءه برود و لا مبالاة المسؤولين في 7 حكومات سابقة و حكومة حالية لا يبدو أنهــا مختلفة... إنه من دواعي التعجب و العجب أن قوانين المالية و التي يفترض فيهــا أن تحدد موارد و مصاريف الدولة دون المساس و الإضرار بالحياة اليومية و الإجتمــاعية للمواطنين أصبحت تحشر أنفهــا في أدق تفاصيل حياتهم – و الفضل لهؤلاء السياسيين من طراز جديد و خاصة مخيف- و تثقل عليهم عوض أن تخفف... ارتفعت أسعار المواد منذ 2011 و أسعار الماء و الكهرباء و الغاز إلى أن اصبحت الزيادات لا تحصى و لا تعد و لكن يبدو أن ذلك لا يكفي فتغيرت أيضــا فلسفة قوانين المالية لتتحوّل إلى قوانين عقابية و كان الفاتح لهذا التدهــور قانون ديسمبر 2013 و اللذي تولّى "منقذ البلاد" جمعة تطبيقه على حذافره بفرض اقتطــاع اجباري على الأجراء رغم معارضة المركزيات النقابية و الأجراء أنفسهم و لكن تشتيت الانتباه و الظرف الأمني الصعب آنذاك أعانه على وضع يد السلطة في جيب الطبقة المتوسطة... و شجّع ذلك المسؤولين الاحقين على محاولة إعادة الكرّة و كثر التخطيط في الكواليس لترك المنظومة الجبائية على ما هي عليه من قلة عدل و قلة فاعلية... و بعد جلد الموظفين بهذا الاقتطــاع القسري في استحضار لصندوق 26-26 في ثوبه البرلماني الجديد، قرر "المنقذ" آنذاك إرساء زيادة في عديد المواد الاستهلاكية العائلية كالقهوة و السكر و التبغ و البنزين و مصبر الطماطم و حرص أن يفعّل تلك الزيادات في قلب شهر رمضــان لسنة 2014 لكي يبعث برسالة قوية إلى الشعب أن مطــالبهم عديمة و مبتذلة، هذا دون الحديث أنهــا سابقة لم تقع أبدا في تاريخ تونس منذ عهد الحسيينيين البايات مرورا بالحماية و سنوات الزعيم ثم سنوات التغيير. و تعممت و تعددت منذ ذلك الحين الهجمــات الآتية بمناسبة قوانين المــالية...
في قانون المالية لسنة 2017، استشرفت الحكومة الحالية الترفيع في الضريبة على الدخل و هو إجراء سيقع تطبيقه، في الحقيقة و الواقع، و بطبيعة الحال و الكعادة، على الأجراء دون غيرهم لأنهم الوحيدون الواقعون تحت قبضة الإدارة و هي ليس لهــا من التدابير و الوسائل ما يخول لهــا متابعة أصحاب الدخل الحرّ. و يبدو أن ذلك لا يكفي حيث يبشّر مشروع قانون المالية الأجراء بإحداث "مساهمة ظرفية استثنائية" من مرتباتهم لفائدة ميزانية الدولة. و يبدو أن كلمة استثنائية أصبحت في هذه البلاد العجيبة -التي تحكمهــا سلالة متفوّقة- من باب الفلكلور لا غير حيث أنهــا المرة الثانية التي يتطلع فيها قانون المــالية إلى اقتطــاع من المرتبات و تفقد بذلك كلمة استثنائية كل وجاهة و يستحسن تعويضهــا بكلمة دورية. هذا دون الحديث على أن الاقتطــاعات القسرية غير قانونية فرضت سنة 2014 عندمــا كانت رئاسة الحكومة آنذاك تبحث عن 4.5 مليار دينــار لموازنة قانونية المالية التكميلي و وقع استغلال لوعة الشعب وقتهــا من الضربات الإرهابية و من فترة حكم الترويكــا لتشتيت الانتباه لفرض ما لا يتيحه القانون و ما لا يقبله الأجراء. ولم يغب عن مهندسي المشروع إقحام أصحاب السيارات ذات محركات البنزين في المقصلة المالية حيث يقترحون عليهم زيادة بــ 25 % في تعريفة معلوم الجولان و كأن امتلاك سيارة في هذه البلاد العجيبة -التي تحكمهــا سلالة لا مبالية بهموم الناس- أصبح جرمــا يتطلب جزية، هذا دون الحديث عن الزيادات في معاليم التأمين للسنة الفارطة و ما يتعرض له أصحاب السيارات من مضايقات من عديد الأطراف تدركهــا الإدارة جيدا و بقطع النظر عن الحــالة الرديئة و الكارثية لطرقاتنــا و التي تبرر تخفيضــا في معاليم الجولان و ليس العكس، إنمــا هي وسيلة إضــافية لحشر يد المسؤول في جيب المواطن و مزاحمته في قوته اليومي في إطــار جباية أصبحت انتزاعية...
كل هذه الإجراءات ماهي إلا تدابير للتفقير و للتجويع على خلفية أن المسؤولين في هذه البلاد العجيبة لا يكترثون لسعادة و عافية المواطن. و علاوة على ذلك فإن المطــالبين بهــا لا تتجاوز نسبتهم نصف السكان النشطين و ربع المواطنين البالغين... و البقية ؟ أين عدالتهــا، أين حسن تقاسمهــا بين الجميع؟ تمضي قوانين المــالية تباعــا وكل نص أقسى من سابقه ينطوي على تضييق للخناق و زيادات و مزايدات في الزيادات و كأن قانون المالية يتحوّل لدى الحكومــات إلى رهــان على كسر ظهر المواطن و مسابقة في خراب البيوت وكأن التفقير أصبح هدف و منال الدولة. لقد ابتعدت الدولة فعلا، دون أن تدرك، عن دورهــا الحقيقي تجاه مواطنيها. هذا واقعنا اليوم بعد الشعارات الرنانة لفترة ما بعد جانفي 2011 عندمــا كان "فرسان الثورة" يعدون الناس بحياة أفضل. إنه فعلا من المؤسف أن نتدحرج و نسقط لهذا المستوى و إن كانت الدولة تطمح إلى تعبئة الموارد فما عليها إلا أن تبحث عن الأموال أين هي موجودة. أين أنتم ذاهبون بهذه الزيادات ؟ ما هي آخرة هذه الوضعية ؟ متى سنقطع مع الحلول الترقيعية ؟
التقشف، التهديد و التجويع
مــاهو التقشف اللذي يدعو له رئيس الحكومة ؟ من مــاذا تتكون حياة ســــواد التونسيين ليتقشــفوا؟ يتغذي التونسي في أغلب الأحيــان من المعجنــات و لا يقتــات من اللحم و السمك إلا أحيــانــا و بصعوبة كبيرة. يشتري ملابسه من سوق أو محلات الفريب و يقتني حذاء جديدا مرة في السنة. يقضى أغلب وقته الفارغ في المنزل في مشــاهدة التلفاز و يمضى إلى المقهى بعد ســاعات العمل صيفــا و شتاء.لا يملك منزلا بل يكتريه من المالك إن كان متسوّغــا أو من البنك إن كان سيملكه مستقبلا و لاينتهى من خلاصه إلا عند مقاربة سن التقاعد. يموّل رصيد هاتفه بدينــار واحد. في هذه الحياة المتواضعة و البسيطة مــا اللذي يمكن للتونسي أن يتقشف به ؟ هل هذا مقلب أو نكتة ؟ هل رئيس الحكومة جــاد في كلامه ؟ التهديد و الوعيد بسياسة التقشف و الإفلاس و طرد العمــال و الشغالين و رفع الأسعــار و منع توريد الملابس المستعملة و غيرهــا من إجراءات التجويع موجهة فقط لــ 90 % من الشعب... للمعطّلين عن العمل و الموظفين و الأجراء و المهمشين. أمــا الأثريــاء و المهربين و المتهربين من الضرائب و أصحاب الجاه و المال و المداخيل الضخمة فليس عليهم حرج و لا ما يدعوهم للقلق و لهم كل الدعم و الحمــاية و التبجيل.
هل كذب توفيق بن بريك عندمـا توجه إلى الصحفيّة مريم بالقاضي على بلاتو نسمة بهذا الكلام: " إن سنوات الباجي ستكون سنوات حمر دم و سنوات سود كحل" بادرته الصحفية بالسؤال: "لم هذا التشاؤم ؟" فأجــاب: " لأنهم ليسوا حاضرين للاستجابة لحقوق النــاس. الناس جاعت، الناس تهانت. مبنّكين في القصــور ! مبنّكين في مرسدساتهم ! ناس لا تجعر و لا تحشم"
سليم شاكر و أسلمة المجتمع التونسي ؟
بعد أن صــادق مجلس نواب الشعب في ديسمبر المــاضي على التخفيض في الأداءات على المشروبات الكحولية، لم يفت سليم شــاكر قبل أن يغادر وزارة المــالية باتخــاذ قرار أحادي في الزيادة في أسعار المشروبات الكحولية ثلاثة أضعاف لمزيد تضييق الخنـــاق على مستعملي هذه المشروبات و تعكير مزاجهم. إن بلادنــا تتحول فعلا بفضل هــؤلاء السياسيين إلى بلاد تتسابق على صعوبة الحيــاة. لمــاذا يعاقب وزير المالية شاربي الكحــول؟ إن مـا يأكلونه و مــا يشربونه لا يعنيه و ليس من شأنه وهو نتاج اختياراتهم و ليس لسياسي أن يفرض نظرته على المجمــوعة كمــا أنه ليس من مشمولاته أن يأسلم المجتمع فهو موظف عمومي و ليس داعية ديني. و علاوة على ذلك كيف تتداخل السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية إلى هذا الحد و كيف يكسر وزير مــا قررته السلطة التشريعية ؟ هل قرارات مجلس النواب لدى سليم شــاكر لا تعدو أن تكون إلا مجرد مسودات و لغو ؟ هل نعيّن وزير مــالية لينشغل بحسن سير الميزانية أم ليأسلم المجتمع ؟
أنتم تأمرون و نحن ننفّذ ؟
لقد وعد "فرسان الثورة" إبان أحداث 2011 بالاعتنــاء بالشعب و الرجــوع إلى سياسة إنسانية في التعامل مع المجمـوعة و تسهيل حياة الناس و خــاصة الرجوع إلى مبدى الدولة الحاضنة و لكن الواقع أننــا نلاحظ بدون لبس توجه الدولة إلى مــا يسمى في الاقتصــاد السيــاسي بــ"الدولة الجندرمة" حيث تقوم الحكومــات المتعاقبة بالانسحــاب شيئـــا فشيئـــا من الحياة العامة و تقلص شيئــا فشيئــا في تدخلهــا في المجــال الإجتمــاعي و الاقتصــادي إلى أن ينعدم كليــا. و تتكلف الدولة بالأدوار السيادية أي الشرطة و الأمن، القضــاء و أخيرا الجيش و حماية الوطن. ذلك هو الأنموذج اللذي نتدحرج نحوه شيئــا فشيئــا حيث يسحق القوي الضعيف في كل المجالات: في الاقتصاد و الأعمال و المنافسة و السكن و التعليم...الخ و تلك هي الرأسمــالية المتوحشة: لا تعتني الدولة بالمواطنين و لا تكترث لهمومهم و لا يهمهــا شأنهم و مآلهم، تكثر سياسات التقشف الموجهة نحو مستحقي الإعــانات و ترتفع الأسعــار بصفة صاروخية في لا مبالاة و عدم اكتراث أسطوري. أليس هذا مــا يقع الآن ؟ أهذا مــا نطلبه منك يـــا وزيـــر ؟
نشر في جريدة الشعب
التعليقات
علِّق