"الديقا" القرية المنسيّـة

"الديقا"  القرية المنسيّـة

عند كل يوم ...تدق الساعة الثالثة بعد الزوال ، تدق معها جميع قلوب الأهالي وتختنق أنفاس القرية ، حينها تنحبس الأوجاع والآلام  بداخل السيد خليفة البالغ من العمر 67 سنة ، وذلك بفعل التفجيرات الدوريّة بجبل الرصاص.... معاناة… لسنوات عديدة أجّجتها تجاوزات كبيرة في منطقة "الديقا" (وهي قرية محاذية  لمنجم الرصاص والزنك بجبل الرصاص في شمال شرق تونس ، على بعد  30 كلم من جنوب البلاد ، وسمّيت  " الديقا " لأنها تكوّنت بفعل الترسبات الحرارية المائية للأوردة أو التشكل الكارستي ، حيث تكون الخامات عبارة عن كبرتيد في العمق وتتأكسد على السطح .ويمكن القول أنها من ضمن بقايا الاستعمار الفرنسي الذي خلّف وراءه نفايات التشغيل والمعالجة في الموق....."لم يعد باستطاعتنا العيش في القرية بسبب الانتهاكات الإنسانية والتي كان المتسبب  الأصلي فيها  المستعمر الفرنسي وما تركه بعد رحيله من نفايات المعادن التي كان يستخرجها آنذاك...

كان المستعمر  يستخرج الثروات المنجمية وبعدما استنزفها  لم يتبقى سوى "الديقا " هكذا عبر خليفة.  "الديقا"... كومة كبيرة من ضمن عدّة كومات  تكونت من ترسبات و تراكم نفايات الزنك والرصاص المتأتية من المنجم الموجود بجبل الرصاص لتصبح حيّا سكنيّا ، لأكثر من 500 شخص  بعدما كانت ملعبا للأطفال  يتسابقون نحوها مستمتعين برحابة سطحها والذين خطّوا ورسموا أحلامهم عليها إذ باتت  تمثّل  جزءا منهم غير مدركين ما تخبئه  لهم من مخاطر قد تؤثر على صحتهم ، فهي نتاج نفايات الزنك والرصاص المكوّمة بفعل العوامل الطبيعية.

==مراحل أعمال التعدين

تم استغلال الرواسب المعدنية لجبل الرصاص منذ العصر الروماني والعربي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، واستؤنفت الأعمال القديمة بتركيب مسبك ومحطة غسيل الجاذبية.

من عام 1895 إلى عام 1930 ، كان العمل متقدمًا بشكل خاص مع الاكتشافات الجديدة والاستغلال في المحجر والألغام ، وتم تركيب ورشة التعويم في عام 1937.

نفايات الغسيل ، التي تتكون من الجزء المعقم من الخام المسحوق ، تم إلقاؤها في معلق في الماء ، بجوار مصنع المعالجة مباشرة ، في شكل كومة مسطحة.

قرية خالية من الحياة

تحدّث خليفة لمعدّ التحقيق عن حالته الصحية المتردّية  والتي  تدهورت إذ  أصبح يعاني من مرض الكلى منذ عشر سنوات ، كما أنه  ليس الوحيد في هذه القرية يشكو من هذا المرض بل حتى الأهالي يعانون أمراض عدّة من جراء التلوث الذي اجتاح القرية وحياة أكثر من 150 عائلة أصبحت مهدّدة ، فكل شيئ تغير لونه وطعمه، فالجبل لم يعد أخضرا كسابق عهده ...بل أصبح رمادي اللّون بسبب الدخان المتأتي من المعمل وشجر الزيتون أصبح عقيما والحيوانات ماتت،فعلى سبيل الذّكر   لقد خسر جاره 200 عنزة في مدة وجيزة .

وتحدّث م.ح وهو شاب في مقتبل العمر من  متساكني القرية  وفي نبرة مرتجفة وعيناه تروح يمنى ويسرى وكأنه  يخشى أن يسمعه احد من المارة ....معمل الاسمنت  الذي جعل الحياة جحيم حيث لم نعد قادرين على استنشاق الهواء النقي بسبب الدخان المسموم  والغبار الذي ينبعث من  المتفجرات المستعملة بصفة دورية لتفجير الجبل، بل أصبحت مساكننا مهددة بالسقوط من جراء اإلتّشققات الناتجة عن التفجير والتي أثقلت كاهلنا عند ترميمها  مرارا ومرارا هذا بالإضافة إلى مصبّ النفايات ...فالديقا أصبحت مصبّا رسميا لمعتمديّة مرناق ..فكل يوم تأتي الشاحنة التابعة للمعتمدية لرمي الفضلات فيها لا لحملها مضيفا في لهجة حادّة "إلى أين نذهب وكيف نحيا في وسط ملوّث   واين سيلعب أطفالنا  فهل من مجيب.....؟؟؟؟.

خطر" الديقا " يتربص بهم من كل الجهات فأين وليت وجهك ترى مدرسة إبتدائية تبعد عن " الدّيقا" 3 أمتار والمستوصف يبعدها بــ4 أمتار والمنازل تتوسطها ، ولازال عمدة القرية يمدهم بشهادة الحوز . فكل شيء متاح بالقرية  ولا  خوف من المجهول فكل ما عليك هو الحصول على شهادة حوز من عند العمدة فتصبح مالكا لمنزل وعوض أن يحميهم ذلك المنزل من المخاطر بل كان يساهم فيها بنسبة كبيرة وذلك بفعل الأرض التي بني عليها كلّ المساكن.

حلم يتحقق "بالديقا" في رمشة عين  وهو "كسب منزل" عن طريق الحوز  ، هذا هو قانون قرية جبل الرصاص ، قانون لا رقيب ولا  حسيب في" المنطقة الحرة"  وكأنها لا تنتمي إلى الدولة التونسية.

  لاحظ معدّ التحقيق خلال زيارته للقرية وكأنها من الزمن الغابر حيث لا تستطيع أن تراها بسهولة لأنها محاطة بالجبل , وحتى تصل إلى هناك يجب عليك أن تقطع  مسافة طويلة وتمرّ على بقايا  آثار المستعمر الفرنسي الخالية من الحياة, فينتابك شعور بالوحدة والضجر ...في قرية منسيّة...

آثار للمستعمر الفرنسي بجبل الرصاص

ومن خلال زيارة ميداينة ثانية إلى القرية التقينا بالسيد صالح  الذي أفاد بان القرية محفوفة بعديد المخاطر منها معمل الاسمنت أيضا ومصب الفضلات فضلا عن التلوث المتأتي نفايات الزنك والرصاص  هذا التحقيق االستقصائي أردنا الكشف عن مدى خطورة نفايات الزنك والرصاص

وأضاف قائلا" لم أتصدى وحدي  عندما حط " الطرابلسية "  (وهم مالكي مصنع  الاسمنت آنذاك ومن عائلة الرئيس السابق زين العابدين بن علي ) رحالهم بالقرية سنة 2005 وعزموا بناء مصنع الاسمنت بل كل الأهالي نادوا بصوت واحد يكفينا تلوثا....ولكن سياستهم الدكتاتورية وضعت اللّجام على أفواهنا وحسمت الأمر واستطاعوا استقطاب بعض الشباب أو جلّهم للعمل معهم إلى حين تنفيذ مخططهم والهدف حينها كان إخراج كل الأهالي من القرية ، ولكن أفسدت  الثورة التونسية لسنة  2011 مخططهم وأنهتهم ..." ويواصل حديثه في حزن وأسى " لقد سئمنا الشكوى خصوصا وأن أغلب الأهالي غير متعاونين معنا لأن  مصلحتهم تفرض عليهم الصمت والسماح بهذه التجاوزات ، فمثلا عوضا عن استعمال 2 طن من المتفجرات  لتفجير  الجبل ، يتمّ استعمال 5 طن لاستخراج 300 طن من الحجارة ، فقد مللنا الروائح الكريهة ومللنا الوعود ، فكالهما يخنقنا ....وعود الحد من التلوث ومعالجة النفايات ووعود تشجير الشوارع ووعود رفع الفضلات فكلّها  حبرا على ورق وبالتالي أصبحت أرق ".

ويدعوا صالح   السلط المعنية إلى إنقاذ أهالي قرية جبل الرصاص واسترجاع حقهم في العيش الكريم بالحد من التلوث المتأتي من نفايات الزنك والرصاص  ومصبّ الفضلات ومصنع الاسمنت وحمايتهم من الوضعية المتردية .

قرية ...اغتالها التّلوث

 وتدخل السيد محمد صاحب دكان بالقرية قائلا " هنالك العديد من الحلول  للحد من هذا التلوث الخانق ـ فبإمكان مالكي المصنع   تنقيص كميات المتفجرات التي يستعملونها لكسر الحجارة إضافة إلى استعمال مصفاة لتصفية الهواء الملوث.

والتقينا أيضا بنبيل مجربي أيضا ،هو شاب يبلغ من العمر 29 سنة  ومتحصل على شهادة في الإعلامية وعاطل عن العمل ضاق ذرعا من الحال التي ألت اليها القرية "الحياة أصبحت جحيما بالقرية فكل شيء أصبح مشوّها كحيطان منازلنا وكل ما نراه هو اللون الرمادي والأسود بسبب ما يخلفه معمل الاسمنت إضافة إلى الروائح الكريهة المنبعثة من "الديقا " لقد سئمت العيش في القرية وسئمت جبن متساكنيها الذين يخافون أن يطردهم مالك المصنع ويصبحوا عاطلين عن العمل لان قرية جبل الرصاص لا توجد بها وظائف  ...هكذا عبر نبيل لمعد التحقيق.

وصرّح بأن أهالي القرية يرفضون تقديم شكوى ضد مصنع  الاسمنت مطالبا  بتدخّل سريع  لأنهاء هذه المأساة التي تعيشها القرية بأسرها منذ سنوات عدة.

مصنع الاسمنت يهدّد حياة الأهالي بالقرية

ولنورالدين البالغ من العمر 40 سنة رأي آخر فيما يخص العيش بالقرية إذ اعتبر أن القرية ومتساكنيها  لا يشكون من أي ضرر ، ولما لا  وهو احد العملة بمصنع  اسمنت قرطاج. كما انه امتنع عن الحديث بخصوص مخاطر التلوث المتأتية من نفايات الزنك بل اكتفى بالحديث عن  تاريخ المنطقة منذ عهد الاستعمار الفرنسي واستغلالهم لمنجم جبل الرصاص لاستخراج المعادن الثقيلة.

تساؤلات كثيرة تحوم حول هذه القرية ، كيف انتقلوا إلى هناك ؟وكيف استطاعوا مقاومة خطر التلوث البيئي لسنوات عديدة؟ وماهي المضار الحقيقية التي تنجر عن نفايات الزنك والرصاص التي يعيشون فوقها اضافة إلى مصنع الاسمنت؟ ...كلها تساؤلات أردنا إجابة صريحة وشافية .

كل هذه السموم التي يستنشقها أهالي القرية يوميا تشكل خطرا حقيقيا على صحتهم لا سيّما الأطفال الذين يتعرضون حتما  إلى أمراض خطيرة ترتبط بالجهاز التنفسي ما يؤدي إلى مرض "الفدة" كما بينه ذلك خبراء وكما سنرى صلب التحقيق, فهل من منقذ لهؤلاء الأهالي  ولهذه الطفولة البريئة؟

قرية جبل الرصاص...قنبلة موقوتة

أما بخصوص مخاطر التلوث أجابنا وبكل بكل حسرة وأسى الأستاذ الجامعي  بكلية العلوم بتونس  ف.ش عن فظاعة الوضع في قرية جبل الرصاص و ما يعانونه أهاليها من تلوث بيئي خطير بسبب نفايات الرصاص التي تمثل 1.2 بالمائة والزنك الذي يمثل 86.5 بالمائة و230 مغ ، ومن أخطر المعادن الثقيلة معدن "الكادميوم" الموجود في "الديقا" معتبرا  أن هذا الوضع دليل على اللامبالاة  وتجاهل السّلط المعنية لمواطنين يحملون الجنسية التونسية ويحتلّون رقعة صغيرة في شمال شرق البلاد

(معتمديّة مرناق من ولاية بن عروس) ويفيد بان هذه النفايات الموجودة في منطقة جبل الرصاص حاملة لإشعاعات خطرة تؤثر على الصحة و تتسبب في أمراض سرطانية . ومن أهداف مخبر كليّة العلوم تثمين هذه النفايات بعد معالجتها بالنباتات وهي من الحلول السهلة للتصدي إلى هذه القنبلة الموقوتة والتي قدّرتها دراسة علمية أعدّتها الدكتورة و الباحثة منال غربال سنة 2007.

وتمحورت هذه الدراسة حول  التطور المعدني والجيوكيميائي للنفايات في منجم الرصاص والزنك بجبل الرصاص (شمال شرق تونس) واكتشفت الدكتورة من خلالها  وبعد زيارة ميدانية لقرية جبل الرصاص أنّ  حجم الجسيمات الدقيقة  وتركيزها العالي نسبيًا من المعادن  وتعرضها للظروف الجوية أثبت  إمكانية  وجود تلوث كبير  لموارد المياه والتربة ، هذا إلى جانب ظهور ثلاثة  أكوام بفعل النفايات المخزّنة والتي يتراوح ارتفاعها بين 10 و6 أمتار ، اثنين من  بين هذه الأكوام حمراء اللون ولهما أسطح مستوية ، وتمثّل الكومة الثالثة هي الجزء الأكبر ولونها رمادي.

وتبيّن من خلال الدراسة انه لا  يوجد أيّ  نوع من الأنواع النباتية في الأكوام ولم يتمّ تصميم أيّ تطور محدد لها، وذلك  لتعرّضها الكلّي للتغيرات الفيزيائية والكيميائية لعقود، واعتبرت الباحثة ان وجود المخلفات  بالقرية المأهولة "جبل الرصاص" أن الأراضي  الزراعية لأشجار الزيتون والأشجار المثمرة تأثّرت بفعل الرصاص والزنك والكاديوم حيث أظهرت التحاليل أنّ  متوسط ​​محتويات الرصاص والزنك والكادميوم في بعض عينات مخلفات التربة وجود تركيزات من الزنك والرصاص بترتيب 8٪ و 4٪ على التوالي في النفايات و 5٪ و 2٪ في الأرض. يحتوي الكادميوم في كل مكان على تركيزات تتراوح من بضع عشرات إلى بضع مئات من مغ / كغ. وتعتبر هذه التركيزات مقلقة مقارنة بتلك التي تم تحديدها في جميع مواقع تعدين الرصاص والزنك الموجودة بالبلاد التونسية وحيث لا يتجاوز محتوى الرصاص أو الزنك 3٪ ، وهو ما يبيّن أن مخلفات التعدين مشكلة بيئيّة كبيرة بالمنطقة بسبب وجود تركيزات عالية من المعادن السّامة (الرصاص والزنك والكاديوم).

تاثر الزراعات بنفايات الزنك والرصاص بجبل الرصاص

وأظهرت التحاليل المجرات أنّ مخاطر المعادن تأثّر على صحّة السكان  في قرية جبل الرصاص،  أولا بسبب  البيئة الكربونية من جهة ومن جهة أخرى فإن درجة الحموضة محايدة للسوائل في جسم الإنسان  وتحدّ من مرور محلول المعادن وكمياتها التي يمكن الوصول إليها بيولوجيا ومع ذلك فإن الرصاص والكاديوم يمثلان خطرا على الأطفال بالإضافة إلى أن  التأثيرات المسرطنة محتملة لجميع السكان.

لقد نجحت الدراسة في التمييز بين نوعين من النفايات: يتميز الأول بهيمنة معادن الكبريتيد المعدني (سفاليريت ، غالينا وبيريت) ويتكون الثاني من معادن أكسدة الكبريتيد (سميثسونايت ، سيروسيت ، هيدروزينكايت وهيميمورفيت) وتكون تركيزات الرصاص والزنك والكاديوم  أكبر من 2 إلى 10 مرات من النوع الأول.

ولم يستند معدّ التحقيق على دراسة الباحثة منال غربال فقط بل تمّ الإطلاع على عديد الدراسات المنجزة بكليّة العلوم بتونس والتي تخصّ قرية جبل الرصاص وذلك خلال سنوات 2006 ، 2007 ، 2014 ، 2016 و2017، ونذكر منها دراسة :  دراسة جبل الرصاص ومحيطه: بيانات رصد جديدة وبيانات تحت السطحية  ودراسة  نمذجة  استغلال محجر جبل الرصاص ودراسة الديناميّات المكانية والزمنية للرصاص والزنك في التربة الزراعية لمنجم جبل الرصاص ، واهتمت كل هذه الدراسات بإثبات مدى خطورة التلوث المتأتي من المعادن الثقيلة والتي تمثل أيضا خطرا كبيرا على صحة الأهالي والزراعات والمياه.

كما سعى الباحثون إلى إيجاد حلول تقلّص وتخفّف من حدّة التلوث الذي أصبح شبحا يهدد قرية جبل الرصاص بكل كائناتها ، العمل على  إعداد خطة متكاملة ومتعدّدة التخصّصات لدراسة كيفيّة  نقل التلوث من النفايات من موقع منجم الرصاص والزنك القديم  في جبل الرصاص والأخذ بالخصائص الفيزيائية والكيميائية للمصدر والظروف المناخية والتضاريس لإعطاء الأولوية لناقلات تشتت المعادن من مخلفات الغسيل للمنجم.

وتبيّن من خلال هذه الدراسات أنّ ناقل الرياح هو العامل الرئيسي القادر على تشتيت المعادن في جميع الاتجاهات بكميات متفاوتة يمكن أن تتجاوز معايير جودة الهواء للرصاص والكاديوم لعدّة مئات من الأمتار بعيدا عن المصدر وأنّ نقل المياه للجسيمات محدودة للغاية بسبب التضاريس البسيطة حول مكبّات النفايات.

"الديقا" المتكوّنة من نفايات الزنك والرصاص

 

 

رسوم بيانية لتركيزات الزنك بجبل الرصاص من دراسة الديناميّات المكانية والزمنية للرصاص والزنك في التربة الزراعية لمنجم جبل الرصاص.

تعتبر هذه القياسات من حجم احتياط المعادن مهمة، لاسيما في السد، مما يقودنا إلى التفكير من ناحية ، في احتمال تلويث ينذر بالخطر ، ومن ناحية أخرى في إمكانية إعادة استغلال هذه النفايات في علم المعادن.

إن مشكل التلوث الذي تتعرض إليه قرية جبل الرصاص والمتأتي من "الدّيقا" ومصنع  الاسمنت ومصبّ الفضلات كان محلّ بحث وجدل كبير من طرف الوكالة الوطنية للرقابة  الصحية والبيئية للمنتجات وقد تم في هذا السياق إعداد دراسات بعد  العديد من الزيارات الميدانيّة للموقع وهذا ما أكده لنا السيد حمادي دخيل مدير سابق لإدارة الرّقابة البيئيّة والصحيّة للمنتجات ، وتفيد الدراسات المنجزة  أن ترسّب الكادميوم والرصاص والزنك  في "الديقا" تجاوز المواصفات العالمية المعمول بها في هذا المجال كما أثبتت أيضا أن التربة البعيدة عن "الديقا" والتي توجد  منتجات فلاحية  قد تأثرت بهذه الترسبات وهو ما بينته أيضا الدراسة التي أعدتها الدكتورة نعيمة قلصي من المعهد الوطني للعلوم الفلاحيّة ، هذا على جانب اهتمام خبراء في مجال البيئة للبحث في مشاكل التلوث التي   تعرض إليها سكان قرية جبل الرصاص بفعل "الديقا" والمتكونة من نفايات  المعادن الثقيلة كالرصاص والزنك إعداد أجراء تحاليل وفحوصات للدم والشعر والأظافر.

وأوضح السيد حمادي بأن الدراسات قد أثبتت أن كل المنتجات الفلاحيّة ملوّثة علما وأن التلوث يتبع مجرى المياه والرياح وبالتالي تؤثر على  صحة الإنسان ،كما أن المشهد العام لقرية جبل الرصاص يتسم بكثافة التلوث في أجزاء معينة وهو ما يؤثر في المنتجات النباتية والحيوانية معتبرا  بأن الحل لهذا التلوث هو المعالجة وذلك عن طريق التّثبيت الكلي ،وهنالك نوعان من التثبيت وهو المادي وذلك عن طريق العزل أو الردم ،  ويوجد التثبيت النباتي أيضا الذي يمتصّ السموم ويجعلها ثابتة وتقلص من حدّة التلوث .

كما أشار إلى أنّ  هنالك نباتات معينة  تتلائم وطبيعة التربة والتلوث وتكون قادرة على امتصاص التلوث، بالموازية يجب التهيئة الترابية وهي عنصر من عناصر التصرف حسب المعطيات الموجودة بالمنطقة مع وجوب  تحمّل أصحاب القرار  المسؤولية باعتبار أن دور الوكالة هو تقييم المخاطر على الصحة والمحيط واقتراح الإجراءات اللازمة كما يجب  على متساكني قرية جبل الرصاص تقديم شكوى جماعية تستدعي تدخل وزير الصحة ووزير أملاك  الدولة ووزير البيئة  ورئيس الحكومة ، للحد من التجاوزات المتأتية من مصنع  إسمنت قرطاج و"الديقا" و مصبّ الفضلات.

الفراغ القانوني يحدّد المسؤولية...

ومن مصدر موثوق به  بوزارة البيئة  الصناعية أكّد لنا بأن الدراسة التي أعدّتها وزارة البيئة لسنة 2009 حول إزالة التلوث بالمواقع الملوثة في الجمهورية التونسية  تهمّ عديد المواقع ، وهي المواقع المنجميّة القديمة و حدّدت الدراسة الأولوية للمواقع التي تعتبر أكثر خطورة على البشر و من المواقع الخطرة ,موقع الحلفاء بولاية القصرين الملوث بمادة الزّئبق  و من بين المناجم القديمة الأخرى  منجمي بيت الجديدي و حمام الزريبة وذلك بعد المعاينة و التأكد من نوعية التلوث و تركيزاته, ومن ثمة حدّد  برنامج إزالة التلوث وكلفته التي قدّرت بــ 30 مليار دينارا للموقع الواحد , ولكن تبقى قرية جبل الرصاص نكرة بالنسبة لدراسة الوزارة .

واعتبر مصدرنا بوزارة البيئة الصناعية أن المسؤولية جماعيّة ويجب أن تتحملّها جميع الأطراف لإنقاذ أهالي القرية من التلوث لأن مادة الرصاص هي من المعادن الخطرة والتي تتسبب في تلف المدارك العقلية للإنسان وشدّد على ضرورة حماية المنطقة وتحجير الاقتراب منها  واتخاذ إجراءات سريعةّ.

وأوضح أن مشاكل التلوث البيئي و تفشيها راجع إلى الفراغ القانوني في البلاد الذي يحدد ماهية التلوث البيئي ويجيب على كل التساؤلات المحيطة بالبيئة .

بناء فوضوي ورخص عشوائيّة

حلول مؤقّتة

لمزيد الاقتراب أكثر من هذا المشكل البيئي الخطير التقى معدّ التحقيق بمصدر من مصادر السّلط الجهوية "بمعتمدية مرناق" وعند الاستفسار عن الوضعية الكارثيّة التي يعيشها سكان قرية جبل الرصاص وكيفية معالجتها، تردّد مصدرنا ثم قال “ لقد أصبحت القرية جزءا من تاريخ جبل الرصاص ولا يمكن للأهالي مغادرتها رغم التلوث الموجود بها  وذلك لظروف اجتماعية واقتصادية كما أغلبهم يعمل بمصنع الاسمنت وهو مورد رزق بالنسبة إليهم..."

وعند سؤالنا عن كيفية الحصول على تلك الأراضي التي بنيت عليها المنازل رغم أنها غير صحيّة ومحفوفة بالمخاطر أجاب قائلا" بالنسبة للمنازل التي شيدت على أرض "الديقا" كانت بواسطة شهادة حوز من عند عمدة القرية وذلك كان من قبل ..."

وأضاف في نفس السياق بأن السلط الجهوية تواجه عديد المشاكل بخصوص البناء الفوضوي ، ففي كثير من الأحيان  تتدخل الشرطة البلدية والأمن لإيقاف البناءات الفوضوية ، لكن لا يستطيعون منعهم لأن الأرض ليست ملك للدولة بل هي ملك لشخص آخر عن طريق التّسويغ وبذلك يصبح العقار محلّ شغب."

وأفادنا مصدر السلط الجهوية بأن قرار وقف مصنع الاسمنت أمر صعب خصوصا وانه مصدرا أساسيا لجلب العملة الصّعبة للبلاد وكذلك يساهم في تخفيض نسبة البطالة بقرية جبل الرصاص حيث عملت الدولة لإيجاد حلول مؤقتة وتتمثل في تعويض المتساكنين وتمكينهم من أراضي في مناطق فلاحية وتشمل أصحاب الشّهائد العليا ودمجها في مجال التنمية الفلاحية.

قرية جبل الرصاص...مصبّ للفضلات

يعتبر هذا التحقيق من المواضيع المسكوت عنها، ويبقى الحال كما هو عليه بقرية جبل الرصاص، قرية منسيّة يحوطها وحش ثلاثيّ الأبعاد ...فهل ستكترث السّلط المعنية لهذه الوضعية الكارثيّة وإنقاذ مواطنين لديهم الجنسية التونسية من التلوث الخطير الذي وجدوا أنفسهم مترعرعين فيه يتنفسونه ويتعايشون معه كما عايشه أجدادهم ؟؟ أم أنّ السكوت علامة الرضا؟؟؟؟.... ويواصل التحقيق مسار بحثه مع السّلط المعنية (وزارة البيئة ووزارة أملاك الدولة مع ضرورة تدخل منظمة حقوق الانسان) التّي تخشى الحديث عن قرية جبل الرصاص....

 معطيات هامة عن أضرار المعادن الثقيلة من منظّمة الصحة العالمية

تشير العديد من الدراسات والتقارير التي أصدرتها منظّمة الصحة العالمية إلى أنّ التعرض للزنك والرصاص قد يسبب تأثيرا سلبيا على الصحة العامة والبيئة .

وأصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرا بعنوان " الزنك في المياه السطحية والتربة والغذاء والاستهلاك" وذلك سنة 2010 والذي أشار إلى أن التعرض للزنك بمستويات عالية يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الصحة الإنسانية والبيئة مثل زيادة خطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والعصبي والتسمم الغذائي ، كما أشار التقرير على أن التعرض للرصاص يمكن ان يؤدي على تأثيرات صحية خطيرة مثل الإصابة بأمراض الدم والأعصاب والكلى والجهاز التنفسي ، ويمكن أن يسبب تأثيرات سلبية على النمو العقلي والجسدي للأطفال .

وبالإضافة إلى ذلك ، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا في عام 2011 بعنوان "التلوث بالرصاص في البيئة"، والذي أوضح أن التعرض للرصاص يمكن أن يحدث من خلال الجو والتربة والمياه والغذاء والأتربة الملوثة ، وأنه يمكن أن يؤثر على الصحة الإنسانية والحيوانية والنباتية. وأشار التقرير إلى أن الأطفال يعدون أكثر عرضة لخطر التعرض للرصاص ويمكن أن يؤدي التعرض للرصاص إلى انخفاض الذكاء وتأثيرات سلبية على النمو العقلي والجسدي.

بشكل عام، تشير الدراسات التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية إلى أن التعرض للزنك والرصاص يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الصحة الإنسانية والبيئة، ويجب اتخاذ التدابير اللازمة للحد من التلوث بالمعادن الثقيلة والحفاظ على الصحة العامة والبيئة السليمة. ويجب تشجيع المصانع والمؤسسات الصناعية على تحسين أدائها البيئي وتنفيذ التدابير الوقائية اللازمة للحد من التلوث ، والتعاون مع السلطات المحلية والجهات المعنية لتحقيق الأهداف البيئية والصحية المشتركة. وعلى الصعيد الفردي ، يمكن للأفراد أيضًا اتخاذ بعض الإجراءات مثل تقليل التعرض للمواد الملوثة وإتباع نمط حياة صحي وتغذية متوازنة وشرب المياه النظيفة والتقليل من استخدام المواد الكيميائية الخطرة في المنزل والعمل.

يمكن أن تختلف نسب المعادن المختلفة في المياه الجوفية والتربة والغذاء والهواء ، وتعتمد على العديد من العوامل مثل المصادر المحتملة للتلوث ونوع المنطقة والتغيرات الطبيعية والجيولوجية في المنطقة.

وعلى سبيل المثال ، تشير دراسة أجريت في مصر في عام 2019 عن مستويات الزنك والرصاص والكادميوم في التربة ، إلى أن المستويات المتوسطة للزنك كانت 81.91 ملغ/كغ ، في حين كانت المستويات المتوسطة للرصاص 22.29 ملغ/كغ، وكانت المستويات المتوسطة للكادميوم 1.14 ملغ/كغ.

وفي دراسة أخرى أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018، تحليل مستويات الزنك والرصاص والكادميوم في الدم لدى الأطفال، وأظهرت النتائج وجود مستويات مختلفة من المعادن المذكورة في الدم ، حيث كان متوسط ​​مستوى الزنك في الدم لدى الأطفال هو 64 ميكروغرام / ديسيلتر، في حين كان متوسط ​​مستوى الرصاص هو 1.2 ميكروغرام / ديسيلتر، وكان متوسط ​​مستوى الكادميوم هو 0.2 ميكروغرام / ديسيلتر.

ويمكن أن تختلف هذه النسب بين البلدان والمناطق المختلفة، وتتأثر بالعديد من العواملمثل التلوث المحتمل من الصناعات وحركة المرور والزراعة والتعدين وغيرها، ومن الضروري إجراء دراسات محلية لتحديد مستويات هذه المعادن في المناطق المختلفة وتحديد مدى تأثيرها على الصحة العامة والبيئة. ويمكن للجهات المختصة مثل الهيئات البيئية والصحية والجهات الحكومية المعنية بالبيئة والصحة والصناعة والزراعة تحديد مستويات الزنك والرصاص والكادميوم في المنطقة واتخاذ التدابير اللازمة للحد من التلوث والحفاظ على الصحة العامة والبيئة السليمة.

تحقيق : نازك العملاق

أنجز هذا العمل بالشراكة مع مركز تطوير الإعلام

التعليقات

علِّق