التونسي والميتافرس...
عندما يقبل مجتمع ما "الانخراط" داخل منظومة عابرة للحدود فإن ذلك يتمّ عادة على قاعدة قبول اشتراطات العولمة فى صيغتها الرقمية الجديدة ، ومنظومات الميتافيرس بأنواعها المتعددة لن تشذ مستقبلا عن هذه القاعدة .
فان كان الفضاء الافتراضي 2.0 مساحة للتفاعل والسجال أحيانا وساحة للسّحل الرمزي والاحتراب الأهلى فى أحيانا كثيرة فانه بفعل تطور الذكاء الاصطناعى وثورة "البلوكتشين" الصامتة ستتكفل عوالم الميتافرس فى المنظور القريب بسحب شبيهنا الرقمى Avatar ومن خلفه مجتمعاتنا إلى واقع بديل Réalité alternative عن الواقع اليومى المعاش.. على أديمه تٌمارس مختلف الطقوس والأنشطة وتتحقّق اشد الفانتاسمات غرائزية وهمجية بعد أن خنقتها آليات "الأنا الأعلى" الفرويدية.. وفى الاثناء يواصل "هوميروس التونسى" بكل ثقة واعتزاز بالنفس فى استكمال "ملحمة الالياذة" فى نسختها الفايسبوكية البائسة وذلك فى انتظار ما ستوفره عوالم الميتافرس الواعدة من مساحات مخاتلة وتخفّى رحبة عجز الفضاء الأزرق الكلاسيكى "لمارك زوكربيرك" عن تحقيقها بالكامل...
فان كان لا مفر من غزو ميتافيرسى مرتقب - بنكهة ميتا/فايسبوكية هذه المرة - لفضاءاتنا الخاصة والعامة فإن السؤال حول مدى استجابة شخصيتنا التونسية القاعدية لعوالم الميتافرس يظل يلاحقنا باستمرار ، والاهم من كل ذلك هل يحتاج التونسى "الميتافرسى بالفطرة " إلى عوالم ميتافرسية اضافية من اجل استكمال ملاحمه اللغوية والسلوكية الرائدة فى صنع الالفاظ والاشارات المستهجنة والبذيئة التى عجز علماء السيميولوجيا واللسانيات على تفكيك بناءها الشاهق ؟
من خلال مؤلّفه القيّم "الشخصية التونسية : محاولة فى فهم الشخصية العربية" ، نجح الباحث وعالم الاجتماع الراحل "منصف ونّاس" فى القيام بتعرية أركيولوجية عميقة وجريئة للشخصية التونسية باختزالها فى ثلاث محددات أساسية:
- أولا، ان التونسى فى سياقاته التاريخية ثلاثى الأبعاد حيث أنه جمع بين خاصيات التأقلم adaptabilité والصهر fusion والانصهار absorption مما أسهم فى نحت شخصية طيّعة شديدة التقلّب ومهادنة ، أخفقت عموما فى صقل شخصية قاعدية محلية متمايزة وفاعلة، غير انها بالمقابل نجحت بتفوق فى توظيف نوازعها الفصامية والخفية فى خلق مجتمع ميتا / فايسبوكى مرعب عنوانه الاكبر الشتيمة والعنف ، فلا عجب ان يكون الذباب الأزرق الذى أشبعك سبابا وتهديدا ليلة البارحة هو ذات الصديق او الشخص الوديع الملائكى الجالس أمامك فى إحدى المقاهى ...
- ثانيا، أن الشخصية التونسية القاعدية تتسم ببراغماتية نفعوية مفرطة فى التعامل مع الأشخاص والاحداث مما جعلها على مر التاريخ وداخل الفضاء الافتراضى تتعاطى مع الشأن العام بمنطق تبادل الغنيمة مقابل الولاء أيا كانت هويته...
- ثالثا، شخصية التفافية تخشى المواجهة داخل وخارج الفضاء الازرق ، تمرست على امتهان طقوس النعامة فى غرس رأسها فى الرّمل عملا بالمثل الشعبي الشهير "اخطى راسى واضرب" ...
فان كانت بداية تشكّل هوية رقمية تونسية جمعية قد تزامنت مع "القمة العالمية للمعلومات" سنة 2005 لتبلغ فيما بعد ذروتها خلال العشرية الأخيرة، فان الجذور الميتافرسية للشخصية التونسية تعود الى قرون خلت بمنكهات انتروبولوجية/وراثية متعددة الروافد والسلالات وقع اثباتها مؤخرا من خلال دراسة علمية قام بها فريق من الباحثين تابع لمخبر "علوم الوراثة والمناعة" بكلية العلوم بتونس - يمكنكم الاطلاع على المقال التالى : D’où viennent les tunisiens : la réponse de la génétique-
باختصار شديد، نحن ازاء جمهورية ميتافيرس استثائية بجميع المقاييس ، لم ينصفها التقويم الميتافيرسى الرسمي..سكانها من شدة تأقلمهم الحربائى ليسوا بحاجة البتة إلى شبيه افتراضى Avatar او الى نظارات او مجسّات الواقع الافتراضى RV او المعزز RA .. نجحوا فى خلق صناعة وطنية حاملة لعلامة م- ت تمتد جذورها إلى ثلاث آلاف سنة من التأقلم والصّهر والانصهار "الحضاري" !
بقلم : محجوب لطفى بلهادى
جامعى متخصّص فى التفكير الاستراتيجى
التعليقات
علِّق