التلقيح ضد سرطان عنق الرحم في تونس: بين الحق في الصحة و التخوف من التبعات

يعتبر سرطان عنق الرحم من بين أنواع السرطانات التي يمكن الوقاية منها، سواء عبر الفحص المبكر( PAP TEST) أو التلقيح ضد فيروس الورم الحليمي البشري (HPV)، الذي يُعد السبب الرئيسي للإصابة به.
و في الفترة الأخيرة، أعلنت وزارة الصحة التونسية عن إدراج لقاح HPV ضمن برنامج التلقيح المدرسي للفتيات في سن 12 سنة، وهي خطوة أثارت جدلا واسعا لدى مختلف الفئات بين مؤيد و رافض و متحفظ، وسط غياب واضح للمعلومة الموثوقة في أوساط عديدة من المجتمع.
فما السبب وراء هذا الجدل الواسع ؟
و هل من حلول ممكنة لتمتع الفتيات التونسيات بالحق في الصحة من خلال الوقاية من هذا النوع من السرطانات؟
و لمعرفة مدى وعي النساء بهذا الموضوع، قمنا بإجراء استبيان شمل 55 امرأة تونسية من أعمار وخلفيات اجتماعية مختلفة.و قد أظهرت النتائج أن أكثر من 85٪ من المشاركات يعرفن المرض، لكن نسبة قليلة فقط أجرين فحص PAP TEST. أما بخصوص اللقاح، فقد سمع به نصف المشاركات فقط، بينما عبّرت 60٪ منهن عن استعدادهن لتلقيح بناتهن، مقابل 20٪ رافضات و20٪ مترددات.
هذه الأرقام تُظهر أن انتشار الفيروس لا يُقابله بالضرورة وعي وقائي كافٍ، بل يظل الحديث عنه محاطًا بالصمت والريبة.
*الفحص المبكر: خدمة متوفرة لكنها غير مفعّلة
تجدر الإشارة أن فحص PAP TEST يُقدّم مجانًا في المراكز الصحية العمومية، لكنه لا يُستغل كما يجب. فالكثير من النساء لا يعرفن متى أو لماذا عليهن القيام به، أو يشعرن بالخجل من طبيعته.
وفي أحيان كثيرة، لا يُذكر هذا الفحص حتى من طرف الأطباء خلال الزيارات الروتينية، مما يُبقي النساء في حالة جهل بخطورتهن.
رغم أن هذا الفحص سهل وغير مؤلم، ويمكنه كشف تغيّرات خلوية قبل أن تتحوّل إلى سرطان. لكن غيابه عن النقاش العام، و شح المعلومة الطبية المبسطة، جعله في موقع ثانوي ضمن أولويات الصحة النسائية.
*التلقيح: بين الشك والإشاعة
التردد تجاه التلقيح لا يرتبط فقط بالجهل، بل أيضًا بانتشار معلومات خاطئة ..
بعض الأمهات يعتقدن أن اللقاح قد يؤثر على الخصوبة مستقبلا أو يشجع على الانفتاح المبكر على العلاقات الجنسية.
رغم أن هذه الأفكار لا أساس علمي لها، إلا أنها تبقى متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب غياب حملات تواصل صحي موجهة بلغة مبسطة.
وقد أكّد الدكتور بشير الزواوي الطبيب المختص في أمراض النساء أن الفيروس يمكن أن ينتقل ليس فقط عبر العلاقة الجنسية، بل أيضًا باللمس أو من الأم إلى طفلها خلال الولادة، مشددًا على أن اللقاح آمن، وتم تطويره منذ التسعينات، ولا يؤثر على الخصوبة.
و أضاف الزواوي أن هذا اللقاح مجرّب منذ أكثر من 30 سنة في دول إسكندنافية، ولم تُسجل أي تأثيرات سلبية على الخصوبة.
كما أشار إلى أن اختيار سن 12 عاما جاء ليكون هذا التلقيح جزءا من التلقيح المدرسي، ولأن هذه الفئة العمرية عرضة للانقطاع المبكر عن الدراسة، مما يُصعّب الوصول إليهن لاحقًا.
كما صرح بأن فيروس HPV يمكن أن يُصيب 80٪ من النساء، لكن الجسم يتخلص منه تلقائيًا في أغلب الحالات. الخطر يبدأ لما يتحول إلى عدوى مزمنة تسبب تغيّرات خلوية سرطانية."
وختم كلامه قائلا : "الناس كانت تعتقد أن الفيروس ينتقل فقط بالعلاقة الجنسية، لكن الدراسات أثبتت إمكانية انتقاله حتى باللمس أو من الأم إلى طفلها.فمثلما لقّحتم بناتكم ضد أمراض أخرى، ثقوا في استراتيجية الدولة وإحموهن من خطر يمكن تجنّبه."
و لكن رغم هذه المعطيات العلمية، يظل الإقبال على وسائل الوقاية ضعيفًا.
*جمعية توحيدة بن الشيخ: التوعية في قلب الميدان
من أبرز الفاعلين في هذا المجال، تبرز جمعية توحيدة بن الشيخ، التي تعمل منذ سنوات على نشر الوعي بالصحة الجنسية والإنجابية، وخاصة سرطان عنق الرحم.
و تقول منى التليلي منسقة مشاريع في جمعية توحيدة بالشيخ إنّ العمل بدأ حتى قبل اعتماد التلقيح في البرنامج الوطني، من خلال حملات على وسائل التواصل الإجتماعي ، و اللقاءات الميدانية بالشراكة مع الأطباء و المجتمع المدني.
و أضافت قائلة : "كنّا نلاحظ أن العديد من النساء، خاصة في الأحياء الشعبية و المناطق الداخلية، يفتقرن تمامًا للمعلومة. و هناك من لا تعرف حتى معنى فحص PAP، و هناك أيضا من تخاف حتى من كلمة سرطان."
وقد ساهمت الجمعية في إعداد ملصقات ومحتويات توعوية مبسطة، تم تبنّيها لاحقًا من طرف وزارة الصحة.
لكن رغم المجهودات المبذولة لم تكن كافية حيث ترى ممثلة الجمعية أن المخاوف المنتشرة، خاصة على فيسبوك، مازالت تشكل عائقًا أمام التلقيح.
و واصلت كلامها قائلة : "أكثر تعليق نسمعه من الأمهات هو: أخاف على إبنتي، اللقاح مجاني و لا ثقة لي فيه. أو يمكن لهذا اللقاح أن يفسد الخصوبة. وهنا يأتي دورنا و الذي يتمثل في الإجابة بثقة عن طريق الحجة، و بلغة مفهومة و مبسطة."
وختمت التليلي كلامها قائلة: "هناك نساء، خاصة في المناطق الداخلية، لا يعرفن أن الفحص مجاني، والبعض يرفضنه بسبب الخوف أو الحرج.
الخوف من التلقيح يرجع جاء من فكرة أنه يسبّب عقم، أو لأنه مجاني وليس مضمون. لذلك وجب علينا إبلاغ المعلومة بلغة الناس، لا بلغة معقدة."
وترى الجمعية أن نجاح الحملة لا يمكن أن يتحقق دون تنسيق فعلي بين وزارة الصحة ، وزارة التربية، و مختلف وسائل الإعلام، والمجتمع المدني، بهدف جعل المعلومة الصحية متاحة للجميع، لا فقط لمن يملك وسيلة الوصول إليها.
و من جانبه يرى ، الأخصائي والمعالج النفسي حبيب الوحيشي أن طريقة إيصال المعلومات حول سرطان عنق الرحم والتلقيح ضد فيروس HPV لعبت دورًا كبيرًا في إثارة الخوف والارتباك لدى العديد من النساء. فقد جاءت الحملات الإعلامية بشكل مفاجئ و بنسق سريع، دون تمهيد نفسي أو توضيح كافٍ، مما ولّد ردود فعل متوترة، خاصّةً وأن الموضوع يرتبط بجزء حساس من الجسد الأنثوي وبمواضيع مثل العقم، الخصوبة، والعلاقات الجنسية، التي ما زالت تُعتبر "تابو" في الثقافة التونسية.
ويؤكد الوحيشي أن حساسية الموضوع تتضاعف عندما يتعلق الأمر بتلقيح فتاة صغيرة السن، وهو ما يجعل الكثير من الأمهات يجدن صعوبة في شرح السبب لبناتهن، خاصة وأن التلقيح يمسّ جانبًا مرتبطًا بالحياة الجنسية، وهو موضوع مسكوت عنه داخل العائلة.
كما ساهمت الشكوك المنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في تعميق الريبة، خاصة في ظل غياب صوت واضح ومطمئن من الإعلام الرسمي أو من الشخصيات الطبية الموثوقة.
و تابع الوحيشي كلامه قائلا:"إن وصلت المعلومة من خلال الإعلام، مدعومة بدراسات دقيقة وفي شكل ملفات تلفزية بحضور مختصين من وزارة الصحة، ثم يقع تمريرها أكثر من مرة، و في أوقات مختلفة كانت لتبسط المعلومة و تجعلها مقبولة وأسهل للفهم ."
كما أشار الوحيشي إلى أن تجربة جائحة كوفيد-19 تركت أثرًا سلبيًا على الثقة العامة، حيث أصبح العديد من المواطنين يشكّكون في كل ما يأتي من الدولة أو من المنظومة الصحية، وهو ما زاد من صعوبة تقبّل اللقاح الجديد، رغم وجود برنامج تلقيح رسمي شامل منذ سنوات.
ويضيف المعالج النفسي أن ردود الفعل تراوحت بين الإنكار الكامل، أو الرفض التام، خاصة من طرف بعض الأولياء الذين يرفضون أن "يمسّ أحد ببناتهم"، أو يربطون التلقيح بـ"أمور الزواج والعذرية".
كما نوّه إلى وجود فرق واضح بين النساء في الأرياف والمدن، حيث لا تمتلك النساء في المناطق الريفية نفس القدر من الوصول إلى المعلومة، لافتقارهن إلى الإنترنت أو مصادر موثوقة.
وختم الوحيشي كلامه بالتأكيد على أن وزارة الصحة هي الطرف الوحيد القادر على تغيير الصورة النمطية المنتشرة، من خلال حملات إعلامية منظمة ومبسطة، يشارك فيها أطباء مختصون، وممثلون عن الوزارة، وأشخاص عاديون مرّوا بتجربة التلقيح، من أجل فتح حوار واسع و مباشر مع المواطنين، ومواجهة الشائعات المنتشرة على وسائل التواصل الإجتماعي بالحجج العلمية واللغة القريبة من المواطنين".
و تجدر الإشارة أنه من المنظمات التي تسعى منذ فترة لتمكين الفتيات من حقهم في الصحة و تمكينهم من الوقاية من سرطان عنق الرحم منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان التي إختارت الإشتغال على ملف الصحة الإنجابية و الجنسية ليكون موضوع مشروع كامل متكامل لتحفيز الوعي الجمعي للرأي العام .
*سرطان عنق الرحم ليس قدرًا محتومًا.
مع توفر المعلومة، والفحص المبكر، والتلقيح، حيث يمكن لتونس أن تقلص عدد الإصابات، وتحمي أجيالًا قادمة من خطر يمكن تفاديه.
لكنّ الوقاية لا تتحقق فقط بإصدار القرارات، بل بنشر الوعي، وتصحيح المفاهيم، وفتح أبواب المعلومة الصحيحة للجميع.
*مريم بيوض
التعليقات
علِّق