الإعلام العمومي: هذه أسباب التمادي في التعيينات المؤقتة؟

الإعلام العمومي: هذه أسباب التمادي في التعيينات المؤقتة؟

ثلاث من المؤسسات الإعلامية العمومية وهي الإذاعة والتلفزة التونسيتين ووكالة تونس إفريقيا للأنباء تدار منذ أشهر من قبل مسؤولين مؤقتين. وهو وضع لا يخدمها وينفع أن يتم تقديم ثلاث ملاحظات لتبيين خطورتها.
من غرائب الدهر ومن غرائب هذا الزمن الثوري أن تدار ثلاث من المؤسسات الإعلامية والعمومية في بلادنا من قبل مسؤولين مؤقتين. وهو حال الإذاعة والتلفزة التونسيتين ووكالة تونس إفريقيا للأنباء التي تعتبر على الإطلاق من أهم وسائل الإعلام في تونس بالنظر إلى عراقتها إذ أنها أنشأت منذ عقود طويلة وإلى الدور الذي تلعبه كمزود للأخبار وكوسائل إعلامية بصفة عامة تقوم بوظائف عدة.
ولعل الأمر يبدو عاديا بالنسبة إلى البعض في هذا الزمن الرديء ولكن الواقع يحتم علينا النظر إليه من زاوية تحمل عديد الدلالات يمكن اختزالها فيما يبدو وضع اللامبالاة التي تظهره كل الحكومات التي تعاقبت منذ 2011 إزاء حقل الإعلام العمومي والتي لم تبين أنها معنية بإصلاحه وإكسابه مقومات إعلام حديث يخدم الصالح العام.
وقبل أن نذهب بعيدا لابد من الإشارة إلى أن مؤسسة الإذاعة التونسية المحدثة سنة 2007 بعد فصل الإعلام الإذاعي العمومي عن الإعلام التلفزيوني العمومي تعاني من الواقع المذكور أعلاه منذ سنة 2019 عندما قرر عبد الرزاق الطبيب الاستقالة من منصبه وتم تعويضه بصفة مؤقتة بالأسعد الداهش الذي أنهى مهامه الرئيس قيس سعيد في جويلية 2021 وعوض خلفه بعد شهرين شكري شتيتي.
 وكلاهما بصفة مؤقتة لأن تعيين رئيس مدير عام للإذاعة التونسية وكذلك الشأن بالنسبة إلى رئيس مدير عام للتلفزة التونسية يخضع إلى مقتضيات المرسوم 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري الذي ينص في فصله ال 19 على ضرورة "إبداء الرأي المطابق" من قبل هذه الأخيرة التي تسمى كذلك الهايكا "فيما يتعلق بتسمية الرؤساء المديرين العامين للمؤسسات العمومية للاتصال السمعي البصري".

" تفادي تعطيل المسائل العاجلة"
غني عن البيان أن التلفزة التونسية تدار بدورها منذ جويلية 2021 وبعد إعفاء الأسعد الداهش من قبل مسؤولة مؤقتة وهي عواطف الصغروني. وكذلك الأمر بالنسبة إلى وكالة تونس إفريقيا للأنباء بعد الضجة التي أحدثها في أفريل 2021 تعيين كمال بن يونس وإنهاء مهام منى مطيبع. فقد وقع تعيين نبيل قردبو الذي يرأس في نفس الوقت شركة "السنيب" التي تتولى نشر يوميتي "لابراس" و"الصحافة" "متصرفا مفوضا وقتيا لتسيير المؤسسة وتأمين السير العادي لها وتفادي تعطيل المسائل العاجلة".
وهو واقع كثر الحديث في شأنه وخلق جدلا حادا ذلك أن نقابة الإذاعة التونسية دعت على سبيل المثال في ماي 2021 إلى التعجيل بتعيين رئيس مدير عام متفرغا يقوم بإصلاح أوضاع المؤسسة ومن بينها ظروف العمل داخلها والبرامج ومضامينها. وهو أمر بديهي إذ أن المسؤول المؤقت لا يمكنه خاصة عندما يكون يشغل خطة أخرى أن يوفر العناية التي تلزم للمهام التي عين من أجلها وكذلك أن يشعر بأن له حتى المشروعية اللازمة لقيادة السفينة. وقد يحق أن نتساءل عن السبب الحقيقي الذي جعل الحكومة تلجأ إلى هذا الأسلوب في التعيينات إلى جانب اللامبالاة ونعني بالطبع لعل الأمر يتعلق بعدم الرغبة في أن يخضع التعيين إلى الرأي المطابق للهايكا خشية أن ترفض هذه الأخيرة مقترحاتها بالنظر إلى ملمح المترشحين الذين لا تتوفر فيهم الشروط اللازمة! وهو أمر قد لا يجوز استبعاده تماما.

غياب "ثقافة ديمقراطية" لدى الحكام
ومهما كان من الأمر فإنه قد يكون من المفيد هنا أن نقدم الملاحظات الثلاث التالية:
1-    عدم رغبة الحكومة احترام ما أتى به المرسوم 116 الذي يبقى اليوم النص الوحيد المنظم للقطاع السمعي البصري في بلادنا. و قد أشار عضو الهيكا هشام السنوسي في مداخلة قدمها يوم الاثنين 20 ديسمبر 2021 خلال اللقاء التحضيري للمؤتمر الوطني للسياسات العمومية في قطاع الإعلام التي تم تنظيمه من قبل النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين أن الحكومات التي أدارت شؤون البلاد منذ سنة 2011 لا تتوفر في أغلبها على "ثقافة ديمقراطية" مشيرا إلى أن ممارساتها تبرز ذلك بجلاء و هشام السنوسي هو العضو الذي يراقب منذ 2013 الواقع السمعي البصري في بلادنا.
وأفاد أستاذ القانون أيمن الزغدودي في نفس التظاهرة أن السياسيين لا يحملون في تونس رؤية وحتى اهتمام بموضوع تنظيم القطاع الإعلامي كما أنهم لا يطمحون إلا في ضرب القطاع وإضعافه قصد السيطرة عليه.

2-    ويمكن التأكد من هذه الزاوية أنهم لا يؤمنون -أو أنهم غير واعون-أحيانا بدور الدولة في النهوض بالإعلام وما يتوجب عليها إيفاء به من مسؤوليات من ذلك بالطبع تقديم الدعم اللازم للوسائل الإعلامية. يشار هنا إلى أن الدستور التونسي لسنة 2014 ينص في فصله ال 31 على "أن حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة " وأن الدولة هي الضامنة "للحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة" (الفصل 32).

وهي رؤية مبنية على تحول في تمثلات الدولة كما أفادت به دراسة قام بها الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار الصادق الحمامي قدمها خلال نفس لقاء نقابة الصحافيين التونسيين المذكورة أعلاه من تمثل تقليدي كانت فيه الدولة "سلطوية" و "دكتاتورية" و "مفترسة" إلى تمثل جديد تصبح فيه الدولة "ناظمة وراعية للإعلام بدوره مرفقا عموميا أساسيا".

ولعله من المفيد كذلك هنا من الإشارة إلى أن الدولة انسحبت منذ قيام الثورة التونسية سنة 2011 من حقل الإعلام. وأن هذا الأمر لم يحصل حتى في أعتى الديمقراطيات. فالدولة تقوم كما تشير إليه الباحثة الجامعية الفرنسية المتخصصة في اقتصاد الإعلام في كتابها الذي يحمل نفس العنوان بمهام أساسية منها التشريع وتحديد الأسعار ودعم المؤسسات الإعلامية والمراقبة.

الحد من "تعددية وسائل الإعلام"

رؤية تنصهر في سياق التحولات التي يعرفها العالم في هذا المجال والتي صارت تؤكد على مبادئ مثل ترسخ الشفافية والمسؤولية والمصلحة العامة والنفاذ للمعلومة والمساءلة. وكم نحن في تونس عندما نراقب ممارسات الحكام والسياسيين بعيدون كل البعد عن هذه الذهنية التي غزت العالم والمجتمعات الديمقراطية بالخصوص. وهو الأمر الذي يعتبره المهنون تعتيما في مجال الإعلام وتضييقا في خصوص السعي للحصول على المعلومة. هذا وقد أحدث في هذا الصدد المنشور الصادر عن رئيسة الحكومة نجلاء بودن والمتعلق بقواعد الاتصال الحكومي جدلا كبيرا. فقد ندد به أمين عام الاتحاد الدولي للصحفيين انتوني بيلانجي وطالب بسحبه الفوري معتبرا أه يحدد من "تعددية وسائل الإعلام". المنشور الموجه إلى الوزراء وكتاب الدولة نص على "ضرورة التنسيق مع مصالح الاتصال برئاسة الحكومة بخصوص شكل ومضمون كل ظهور إعلامي".

3-    إن عدم الإسراع في سد الشغورات على رأس المؤسسات العمومية والتمديد في إدارتها من قبل مسؤولين مؤقتين يعطل ما تتطلبه هذه المؤسسات من إصلاحات ضرورية للنهوض بأدائها ووضعيتها المالية التي أصبحت محيرة جدا. إذ أنها تشكو منذ زمن طويل من هنات عدة تجعلها في مؤخرة المؤسسات الإعلامية في محيط تونس المباشر. ولعل أن ذلك يبدو واضحا من خلال تراجع في قيمة مضامينها التي أصبحت في جانب كبير ترتكز بالنسبة إلى التلفزتين العموميتين على الإعادات وعلى برامج "التولك شو" و بث المسلسلات العربية و الأجنبية الأخرى فضلا عن غياب الابتكار والحوكمة الرشيدة والجودة التي غزت بدورها كل مجالات نشاط المهنة الإعلامية في العالم. وهو أمر تشكو منه كذلك الإذاعة التونسية ووكالة تونس إفريقيا للأنباء.

بقلم: محمد قنطاره
               
 

التعليقات

علِّق