اسرائيل وعقدة "الماسادا" ...

اسرائيل وعقدة "الماسادا" ...

بعيدا عن أفق التحاليل السياسية المباشرة المتداولة هنا وهناك لما يحدث اليوم التى قد لا تساعدنا كثيرا عن اختراق وتفكيك البرمجية الصهيونية من الداخل، قررنا خوض مغامرة البحث عن كود البرمجية code source التى يتحكم فيها علّها تمكننا من استشراف أفضل للمستقبل... 

من المفارقات حقا أنّ الدراسات الأكاديمية المتخصصة في الشؤون الإسرائيلية  والعبرية عموما ستستعيد من  جديد بريقها للأفاق البحثية الواعدة التي تفتحها في مجالات علم النفس الجماعي والانثروبولوجيا الثقافية على وجه الخصوص :

فكيف للقلق وللخوف أن يصنعا دولة وللأساطير أن تصنع ديمقراطية

  • وكيف يمكن أن يتعايش الشعور بالاضطهاد مع هوس القتل تحت سقف واحد؟ 
  • وأخيرا كيف تٌعمّد الديمقراطيات بقادة من طراز “هولاكو” في نسخة جديدة ؟

ففي جمعه بين الدّال بالمدلول لفهم صيرورة الحياة الجنسية الأولى للأطفال لم يجد “فرويد" أفضل رمزية وعمق سوى العودة إلى الموروث الأسطوري.. فكانت الميثولوجيا اليونانية خلاصه.. وكان صاحب الأقدام المتورّمة "أوديب" أفضل الاستعارات ليسجّل تاريخ التحليل النفسي أولى طفراته المعرفية الكبرى  …

بنفس المقاربة – مع اختلافات جوهرية في الغائية المنشودة – اتّبع روّاد الحركة الصهيونية الأوائل نفس النهج.. فباتت العودة إلى قصص ووصايا "الكتاب المقدس" ومزيدا من النبش في الذاكرة الجمعية مسألة حياة أو موت.. فتتالت الأساطير وفتاوى "الحاخامات"لتفضى بالنهاية إلى بناء هيكلا قصصيا خارق متكامل المبنى قاعدته  "اورشاليم" وزواياه "جبل صهيون" و"ارض الميعاد" يحمل من الأسماء  دولة "اسرائيل" ….

أ‌-       البدايات

ففي سفر التكوين 23:25- أحد روافد الكتاب المقدس- :

“وبقى يعقوب وحده، فصارعه رجل حتى طلوع الفجر. ولما رأى انه لا يقوى على يعقوب في هذا الصراع…قال ليعقوب ” طلع الفجر فاتركني” فقال يعقوب ” لا أتركك حتى تباركني”. فقال الرجل ” ما اسمك ؟ ”  قال : “اسمي يعقوب” فقال” لا يدعى اسمك يعقوب بعد الآن بل إسرائيل لأنك غالبت الله والناس وغلبت.”  

فمنذ اللحظة التي تحقق فيها التحوّل القدسى الخارق لشخصية “يعقوب” إلى “إسرائيل” – الذي غالب الله والناس وغلبهم – كان لزاما أن ينتقل الصكّ المقدس  المبشّر "بأرض الميعاد" من "إبراهيم" إلى "يعقوب" ومن ثمّ إلى أحفاده الحاليون.

 ففي سفر التكوين 12: 1-5 :

وقال الرّب لأبرام : ” اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك. فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك: وتكون بركة. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض”.

وفى نفس السفر 15: 7 :

فقال له : ” أنا الرّب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها ”، وذلك للرمزية الدينية المثقلة التي اكتسبتها منذ العهود الكنعانية الأولى تمّ اختيار مدينة "القدس" عاصمة أبدية "للأرض الموعودة" لينطلق معها الصّرح العقائدي في التشكّل أكثر.. فجاء سفر التثنية –  أحد الأسفار الخمسة من الكتاب المقدس – حاملا لأوامر الرب وتعاليمه بالحج ثلاث مرات إلى القدس “يروشاليم” حسب التعبير العبري…

ولإضفاء مزيدا من العذرية والطهارة على المكان كان من الضروري تحصين “القدس” بحصن منيع فتم استخدام تسمية “صهيون” - جبل النبي داود- التي كانت تقوم عليها مدينة “اورشليم القديمة” …

ولكي لا يلقى "جبل صهيون" مصير "حدائق بابل المعلقة" تأسّست الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر تيمّنا "بجبل صهيون" ومنها انطلق المشروع الحقيقى لتجسيم الأسطورة فكانت الدولة/المعبد سنة 1948

فالمضي قدما في مأسسة الأسطورة وفرضها على الآخر حتّمت  المزاوجة بين العسكرة الشاملة  للمجتمع الإسرائيلي من جهة وتأثيثه بمفاهيم الحداثة من جهة ثانية.. فالتماهى القيمى مع المجتمع الدولي يفترض حدا أدني من التقاطع في الحوكمة السياسية.. والتموقع داخل محيط اقليمى معقد متعدد الديانات والاثنيات يحتم إنشاء قوة لا تقهر لا غالب لها حسب التعاليم التوراتية.. فانبثقت قصة جديدة/قديمة .. قصة الدولة/القلعة أو الأمة المسلحة التي عمل الغرب على دعمها حتى قبل ولادتها  بعقود في اكبر عملية تكفير عن الذنب في التاريخ الحديث وفى تعبير واضح عن الوحدة العقائدية التي تجمع العالم المسيحي باليهودي، فألم تأتى أسفار "العهد الجديد" استمرار للوحي التدريجي الذي وعد به الكتاب المقدس ؟

قصة أبطالها من الماضي السحيق .. تم بعثهم للحياة مجددا لاستكمال وصية الأجداد في عملية فبركة ايديولوجية / إعلامية لم يشهد لها التاريخ مثيل…

ب- العسكرة ثم العسكرة...

اختزل “بن غوريون” مشهد عسكرة المجتمع الإسرائيلي  بقوله أن إسرائيل عبارة عن مجتمع للمحاربين ، كما كشفت العديد من الدراسات  الإسرائيلية أن فيروس “العسكرة” تخطى الدوائر السياسية والاقتصادية  والإعلامية العليا للبلاد ليصيب النظام التربوي في مقتل حيث يتولى كبار ضباط الجيش في الاحتياط مناصب قيادية في جهاز التعليم بمقتضى مشروع “تسافتا” المموّل من وزارة التعليم الذي يهدف إلى إعادة تأهيل الضباط المتقاعدين من الجيش وأجهزة المخابرات للانضمام إلى سلك التعليم .. كما بلغت ظاهرة تنامي المدارس الدينية العسكرية التي تنشر ثقافة العسكرة والغلو الديني داخل الأوساط الشبابية مستويات مخيفة…

 ففي معرض نقدها للنظام التربوي الاسرائيلى أشارت الدكتورة “فيرد شمرون” أستاذة التربية في جامعة “بن غوريون” إلى “أن رياض الأطفال تقوم بتنظيم رحلات للأطفال لقواعد الجيش الإسرائيلي، وتحرص إدارات رياض الأطفال على أخذ صور تذكارية لكل طفل وهو يقف فوق دبابات الجيش، وبعد ذلك يتم توزيع رايات ألوية الجيش على الأطفال لكي يقوموا بتثبيتها على رياض الأطفال. وأن إدارات المدارس الثانوية تقوم بتنظيم رحلات لطلابها إلى مواقع الجيش، حيث يشاهد الطلاب مناورات وتدريبات بالنار الحية، في حين يتم تنظيم رحلات إلى مواقع المعارك بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية. وتعمل إدارات المدارس على حث الطلاب على إرسال هدايا للجنود، سيما الجنود من المهاجرين الجدد الذين وفدوا على الدولة بدون ذويهم؛ إلى جانب حث الطلاب على إرسال رسائل إلى الجنود لشكرهم على  الجهود التي يبذلونها لحماية أمن الدولة والشعب “...

فلا التفوق النوعي في الأسلحة.. ولا الترسانة النووية التي يمتلكها..ولا اللولبيات اليهودية الجد متنفذة في الولايات المتحدة والعالم الغربي كفيل بتبديد الخوف الشديد الذي يعيشه الاسرائيلى من الداخل…فكوابيس الأمس لازالت تطارده في كل مكان.. وحقنة "الهولوكست"  لازالت تتدفق في شرايينه.. وعقدة "الماسادا" المخيفة تتكرر اليوم  بعناوين جديدة  تحمل اليوم توقيع ما اصطلح على تسميتهم "بعرب اسرائيل " فى مقدمتهم "المقدسيين" من مسلمين ومسيحين الذين يشكلون بحق الخطر الامنى والاستراتيجى الكامن لدولة اسرائيل...

ج – من متلازمة إلى أخرى

من نافلة القول بان لكل مجتمع عقده وعاهاته النفسية المتعددة بما فيه المجتمع العربي التي لم تتخلص جزءا من نخبه المثقفة من متلازمة "نظرية المؤامرة" بالخصوص، إلاّ انه قلّ وندر أن نشهد "مجتمع عٌصابى"  بهذا الشكل الملفت للانتباه.. فإسرائيل تتنفس وتتغذى منذ أكثر من ستة عقود من الحروب والأزمات وتعيد صناعة العقدة تلوى الأخرى وفق ميكانزمات “تصعيد" خاصة بها  …

فمن المتعارف عليه في التحليل النفسي أنه من الممكن  تحويل الرغبات الأشد عدوانية إلى أنماط سلوكية مقبولة بواسطة الاعلاء أو التصعيد  sublimation إلا أن مفهوم التصعيد فى الحالة الاسرائيلية المتفردة أستبدل بتأصيل كلّ ما هو يتّسم بطبيعة عدوانية

فمن متلازمة الماسادا” MASADA SYNDROME  القلعة اليهودية  التي سقطت على يد الرومان والتي غدت اليوم مزار للعديد من الجنود لتأدية واجب القسم بأنّ ماسادا لن تسقط ثانية ” إلى متلازمة الهولوكست   HOLOCAUSTE SYNDROMEالتي لا تزال موضوع خلافي عميق بين المتخصصين أنفسهم مرورا بمتلازمة القدس  JERUSALEM SYNDROME التي يقع فيها عددا من حجاج مدينة “القدس” لحظة توهمهم بأنهم يسوع المسيح أو الملك داود أو أي شخصية توراتية أخرى...

حيال مجتمع عصابى بهذا المنسوب فان الثالوث البنيوي الفرويدى “الأنا” le moi “والأنا الأعلى” le surmoi” و”الهو”   le ça  لا يعمل  بالطريقة المفترض أن يشتغل بها، فدور "الأنا" التعديلى معطل تماما و”الأنا الأعلى” و”الهو” في حالة من التداخل  والفوضى العارمة، والنتيجة غياب كامل لآليات الكبت LES MECANISMES DE REPULSION   وضبط النفس بإطلاق العنان بالكامل للغرائز الأشد همجية

 فعملية رصد لردود فعل الرأي العام الإسرائيلي  مباشرة بعد كل حرب تخلص إلى استنتاج  بارز يتمثل في أن منطقة اللاشعور عند  الإسرائيلي متضخّمة جدا، تعيش حالة كبيرة من الانفلات ليتولّى "الهو" القيادة العليا للدولة والمجتمع بأسره.. وما الحروب التي تخوضها وما القبة الحديدية والجدار الفاصل وغيرها من أشكال إدارة الوهم إلا تمثلات ومجسمات مادية مضادة لعقدة “الماسادا  …

فمن نفق إلى نفق يعيش المجتمع الإسرائيلي حياة مظلمة.. هذا ما تمكّن “بيبو” (ناتنياهو) الابن المدلّل لإسرائيل من انجازه بعد أكثر من حملة "هولاكية" على الاراضى الفلسطينية المحتلة...

لا محالة من يزرع الخوف لن يحصد سوى سيولا جارفة من الفوبيا القاتلة ...

بقلم: محجوب لطفى بلهادى (باحث متخصّص فى التفكير الاستراتيجى)

التعليقات

علِّق