اتفاقية شراكة للتحول الاقتصادي : هكذا يمكن أن نجعل تونس قادرة ( الجزء الثاني والأخير )

بقلم : غازي بن أحمد
رئيس المبادرة المتوسطية للتنمية
كانت المبادرة التي قامت بها الصين سنة 2013 تستند إلى الحزام الاقتصادي " لطريق الحرير " وإلى " طريق الحرير البحرية " للقرن الواحد والعشرين ( 21 ) . وتهدف هاتان الطريقان إلى إنشاء شبكات في التجارة وفي البنى التحتية تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا وحتى أبعد من ذلك أيضا .
وعند القيام بذلك يمكن للمبادرة أن تجمع نقاط القوة لدى كافة الأطراف وتقديم أمل جديد لها في سياق عولمة غير سعيدة ومنتقدة . وهكذا يمكن أن نستحضر " مجتمع المستقبل الذي تشترك فيه البشرية"... البلدان تتقاسم نفس المصالح وتحارب معا من أجل الحرية والسلام وتعمل على أن يكون عالم الغد فضاء يمكن للأجيال القادمة أن تعيش فيه سعيدة.
هذا المشروع الرائد الذي هو في طور الإعداد يتأقلم مع واقع الأرض والشركاء الذين ينخرطون فيه. لا توجد مجموعة واحدة من التعليمات أو نموذج واحد للجميع. ولا يوجد نمط تشغيل عمل محدد أو نمط فريد صالح للجميع. وتقوم فلسفته الأولى على خلق طلب جديد للمنتجات الصينية بمساعدة البلدان على تطوير بناها التحتيّة.وتمثّل هذه المبادرة المرتكزة على فوائد التجارة أملا جديدا لإعادة العولمة وعهدا جديدا من الإزدهار المشترك . ثم إن الصين لم تظهر أي مطالبة بتوجّه نحو الهيمنة ولن تحل محل الاتحاد الأوروبي في رسم للهيمنة بل إنها ستكمل وتعزز أعمالها في الجوار. كما أن الصين مستعدة لتبني مفهوم الحكم العالمي وتحمّل المزيد من مسؤولياتها الدولية مع تعزيز قدرات البلدان على التطور من تلقاء نفسها ومع احترام المفاهيم التي قدّمها الرئيس" Xi Jinping " وهي " الإخلاص و النتائج الحقيقية والصداقة وحسن النية ". وسيجعلها هذا بلا شكّ شريكًا مثاليًا لمرافقة تونس ودعمها في شراكتها مع الاتحاد الأوروبي.
وقد أبدت الصين مرة أخرى رغبة في تحديد الوسائل الكفيلة بتثمين أفضل لهذا التعاون بالنسبة إلى البلدان الإفريقية مع تشجيع التآزر الكامل مع " أجندة 2063 " للاتحاد الإفريقي واستراتيجيات التنمية الوطنية الخاصة بكل بلد. وهكذا تُظهر الصين أنها ترغب في مشاركة آفاقها في الانفتاح والتنمية مع بقية العالم في سياق اقتصاد عالمي مفتوح.
* من أجل القطع مع الحلقة المفرغة لما بعد الثورة
يتعلّق الأمر هنا بإنشاء منصة تعاون مع الصين مبنيّة على مبادئ "المشاورات الواسعة والمكثّفة والمساهمات المشتركة أو المتبادلة والمنافع المشتركة " . وسيكون هدف هذه المنصة تعزيز التنسيق السياسي وربط الهياكل والبنى التحتية وتنمية التجارة والتعاون المالي والتفاهم بين الشعوب.
وفي هذا السياق يمكن استخدام الأطر المواضيعية (cadres thématiques) من أجل اقتراح التعاون في المسائل والقضايا التي تهم تونس أو منطقتها الفرعية أو جوارها. وسيتم استخدام هذه الأطر كفضاء للنقاش حيث ستتم بانتظام مناقشة المقاربات الاستراتيجية والبرمجة والاستثمارات المشتركة التي تتجاوز حدود الاتحاد الأوروبي .
وستكون المشاريع في قلب المبادرة الجديدة. وقد أحصينا العديد من المجالات ذات الأولوية (الطاقة والأمن الطاقي والبيئة والتكنولوجيا الرقمية والبنية التحتية والنقل) وهي مجالات يمكن فيها تنفيذ مشاريع من المحتمل أن تحفز النمو والتشغيل لتعزيز التماسك الجهوي الفرعي والإدماج الاقتصادي .
وسيكون إنجاز هذه المشاريع متاحا من خلال تعبئة موارد مالية إضافية مغايرة لمخصصات الميزانية الحالية المعتادة.
وأعتقد أنه على الصين وتونس أن يناقشا الإجراءات العملية لوضع هذه الشراكة حيّز التنفيذ وتعزيز التعاون في ما يتعلّق بالاستثمار والتمويل خاصة في تحسين البنية التحتية وتسريع النموّ الاقتصادي والاجتماعي . وهذه الإجراءات ستكون مفيدة لتحفيز الشركات الصينية العمومية والخاصة على الاستثمار أكثر فأكثر في بلادنا وإقامة الدليل على الابتكار من حيث إجراءات التمويل.
ويجب على تونس أن تجلب أكثر ما يمكن من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من أجل تسريع تطوير قدراتها الصناعية والتجارية وبالخصوص عبر برنامج طموح لتنمية المناطق الصناعية ومناطق التجارة الحرّة ( جرجيس ) والموانئ في المياه العميقة ( النفيضة وبنزرت ) . كما أن عليها أن تفتح حوارا وطنيا حول إعادة هيكلة المؤسسات العمومية وفي هذه الحالة حول الخوصصة الجزئية أو الكليّة مع إشراك الاتحاد العام التونسي للشغل في هذه المسألة الهامة . ويجب أن يكون شراء ميناء (Pirée) اليوناني من قبل العملاق الصيني " Cosco " (China Ocean Shipping Company) سنة 2016 مثالاً على ذلك. فمن 0.66 مليون حاوية استقبلها الميناء سنة 2009 ارتفع العدد إلى 4.9 مليون سنة 2019. واليوم نجد أن 80 ٪ من المبدلات التجارية بين الصين وأوروبا تتخذ هذا الطريق. وقد تم تسجيل ارتفاع بنسبة 700 % في أقل من عشر سنوات . ويجب على تونس أن تعبّر عن استعدادها لعمليات الخوصصة الجزئية لميناء رادس والشركة التونسية للشحن والترصيف (STAM ) والخطوط التونسية ومؤسسات عمومية أخرى تجد الدولة اليوم صعوبة في إدارتها . ومن جهة أخرى تبحث الصين عن تصدير نموذجها الخاص في التنمية ونقل أنشطتها الأكثر استهلاكا لليد العاملة وتعزيز الاتصال والترابط بين آسيا والقارة الإفريقية. ولا شكّ أن الإمكانيات كبيرة بشرط أن ترافقها إجراءات وقرارات من أجل تحسين المناخ العام للأعمال ودون شك من أجل تعزيز القدرة على استيعاب أكثر ما يمكن من اليد العاملة المحليّة .
وفي هذا السياق يمكن أن نؤكّد أن العلاقات بين أثيوبيا والصين تعدّ مثالا ناجحا للتعاون " جنوب - جنوب " وهي تجسّم بوضوح كل ما ذهبنا إليه . فقد استثمرت الصين بصفة مكثفة في بلد لا يملك مواد أوليّة . وعلى سبيل المثال فقد سمح إنشاء السدود في أثيوبيا بالتزوّد بالكهرباء بصفة مستقرة وساهم في نجاح المشروع الأثيوبي في أن تصبح أثيوبيا مصدّرا رئيسيا للكهرباء . وهذا البلد الذي لم يكن لديه سوى 12 مليار دولار فقط من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2005 تمكن الآن من خلق 84 مليار دولار من الثروة في عام 2018 ممّا أدى إلى مضاعفة الناتج المحلي الخام 7 مرات خلال نفس الفترة . وقد بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر (IDE ) في إثيوبيا 22.3 مليار دولار أمريكيّا في عام 2018 حسب ندوة الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية (CNUCED ) أي حوالي 27.7٪ من إجمالي الناتج المحلي الإثيوبي الخام .
الخروج من بوتقة البلدان متوسطة الدخل
أثبتت تجارب العديد من البلدان أن الحفاظ بصفة مستمرة على مستوى عالٍ من الأداء الاقتصادي أصعب بكثير من بلوغه. فبعد فترة أولية من الصعود السريع شهدت العديد من البلدان تباطؤًا ملحوظًا في النمو والإنتاجية وسقطت بالتالي في ما يُعرف باسم " محنة أو مصيدة الدخل المتوسط " (middle-incometrap) .
ومن أجل الإفلات من بوتقة ( أو مصيدة ) البلدان متوسطة الدخل يتحتّم على تونس أن تحقق مكاسب إنتاجية أعلى ممّا كانت عليه في الماضي وأن تحافظ عليها بشكل مستدام . والبلدان التي نجحت في هذا الاتجاه أنجزت بشكل عام عملية تحول هيكلي يشمل العديد من النقاط المشتركة. وقد اتخذت قرارات خصوصية من أجل تسهيل التحول الهيكلي وتأهيلها من الناحية التكنولوجية والتنويع الاقتصادي . أخيرا لقد كسرت " سقف الزجاج " من خلال تجميع العديد من الأصول غير العضوية بشكل أساسي وهي ذات طبيعة إنسانية ومؤسسية واجتماعية.
و يتماشى هذا مع نظرية النمو Schumpeterian التي يرتبط فيها النمو الأسرع بنسب أعلى من إنشاء المؤسسات وتدمير المؤسسات بدافع البحث والتطوير والابتكار. وفي هذا السياق سيتم تحفيز الابتكار ونمو الإنتاجية في الشركات القائمة من خلال المنافسة والدخول وبشكل خاص في الشركات أو المؤسسات القريبة من الحدود التكنولوجية.
إلا أن العوائق التي تحول دون الدخول مرتفعة بشكل ملحوظ في تونس كما هو الحال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأكملها بحيث لا تشعر الشركات الحالية بضغط كبير يدفعها إلى الابتكار. وهنا علينا فقط أن ننظر إلى تقرير ممارسة أنشطة الأعمال للبنك الدولي إذ يوفر التقرير مؤشرات يمكن مقارنتها في 190 اقتصادًا . وتقع بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في أسفل الترتيب في ما يتعلّق بإنشاء مؤسسة (على سبيل المثال في عام 2019 حلّت تونس في المرتبة 63 و الجزائر في المرتبة 150 في حين احتل المغرب المرتبة 34) .
وتبرز العديد من الدراسات الافتقار إلى القدرة على المنافسة في العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والبطء في اعتماد التكنولوجيا الذي يؤدي إلى تلك النتيجة لشرح كيف تتعطل العديد من الاقتصادات بسبب الضعف في اعتماد التكنولوجيا .
وبالنسبة إلى " فريد بلحاج " نائب رئيس البنك الدولي فإن النقطة الأساسية لتونس هي المنافسة في الأسواق . وهو يعتقد أن هناك ظاهرة احتكار وليس هناك مساحة كافية معروضة خاصة للشباب وكذلك لأولئك الذين لديهم الإمكانية لخلق أو تقديم أفكار جديدة وطرق جديدة لفعل الأشياء . و نتيجة لذلك هناك قطاعات كبيرة في السوق الاقتصادية التونسية قد هرمت .
وتعتبر السوق التونسية سوقا مشكوكًا فيها تمامًا وهذا يعنى أنها تخضع إلى اللعبة العادية للمنافسة العادية في الحالات التالية :
- الدخول على هذا الأمر يكون حرّا تمامًا (يمكن للداخلين المحتملين تقييم ربحية الدخول بدءًا من أسعار ما قبل الدخول للشركة الموجودة بالفعل).
- الخروج أيضا حرّ تمامًا بمعنى أنه غير مكلف كثيرا .
و بمعنى آخر فإن هذا يعني أن وضعية التنافس لن تكون مرتبطة بالضرورة بوجود عدد كبير من العارضين في السوق المعنية (فرضية الذرية). ومن منطلق هذه الزاوية تمثل حرية الخروج الفرضية الأساسية من السوق المشكوك فيها أو التي هي محلّ نقد .
هذا التنافس لا يمكن أن يكون مضمونا إلا من قبل الدولة التي تقنّن الأمور والمعاملات ومن قبل العدالة . وعليه لا بدّ أن نكون عمليين بصفة فعلية وأصحاب مصداقية. وهذه الديناميكية بالذات هي التي يجب خلقها في تونس بشكل يسمح بإعادة النمو. ومثلما يؤكد فريد بلحاج : " يجب أن تكون الدولة دولة تعديلية تسمح لكافة الفاعلين الاقتصاديين بإمكانية الدخول إلى الأسواق" .
ولعلّ من مصلحة تونس أن توجّه شراكتها الاستراتيجية مع الصين حول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي ستأتي كتكملة لمشاركتها في مبادرات الاتحاد الأوروبي على غرار شبكة مؤسسات أوروبا وبرامج أفق 2020 و" COSME " التابعة للاتحاد الأوروبي والاتصال مع " GÉANT " . وهذا من شأنه أن يساعد تونس على كسر الجمود واعتماد مقاربة مبهرة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ("moonshot"). ويجب على تونس أن تلتحق ببلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي من حيث مستوى الوصول إلى الأنترنات وعرض النطاق الترددي وعدد المعاملات المالية التي تتم بالوسائل الإلكترونية. وهذا من شأنه أن يحرر إمكانات الشباب والمتعلمين الذين يعانون من معدلات بطالة مرتفعة إضافة إلى أنه يحفّز النمو.
ولهذا الغرض يجب تطوير مفهوم "التخصص الذكي" من أجل تصميم استراتيجيات الابتكار والبحث. ويجب أيضا تشجيع إنشاء مساحة مشتركة للمعرفة والابتكار بين الصين وتونس بالاعتماد على بيانات علمية من أجل توفير مواطن عمل قائمة على المعرفة وجذب مستثمرون إلى شركات مبتكرة تقع في تونس.
وبالتوازي سيواصل الاتحاد الأوروبي تبنّي ودمج الأولويات المشتركة من خلال برامج مشتركة في ما يتعلّق بالبحث والابتكار بواسطة البرامج المشتركة على غرار الشراكة في البحث والابتكار في منطقة البحر المتوسط (PRIMA) ) ومشاركة الدول المجاورة في أفق 2020 .
الخلاصة
أعتقد أنه على المفوضية الجديدة أن تعلن عن نواياها حول " اليوروماد " (l’EuroMed ) . والقول إن " بناء منطقة سلام وأمن ورخاء مشتركة " يتطلب من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه أن يكون لديه رؤية حقيقية " لليوروماد " وليس مجرّد تحفيز " الشراكات الوثيقة وزيادة الاستثمار في الجوار الأوروبي وفي ما أبعد من أوروبا " بحججهم الوحيدة أنهم " يسهّلون إنشاء منافذ اقتصادية وإدارة الهجرة المنظّمة ومكافحة الشبكات السرية ". إن التزاماً واضحاً من قبل اللجنة الجديدة في اتجاه استراتيجية مشتركة للتعاون والإنتاج المشترك تجمع بين المزايا ذات الصلة من شأنه أن يدفع تونس إلى التوقّف عن أي تردد واتخاذ خيارات أساسية : خيارات للتنافسية والابتكار واقتصاد السوق وبالتأكيد جرعة من الليبرالية والمنافسة في السوق .
وفي كافة الأحوال يجب على الاتحاد الأوروبي أن يقبل بالدور الصيني باعتبار أن الصين قوة بناء على المستوى العالمي سواء في إطار شراكة معززة مع تونس وبصفة أكثر شمولا مع إفريقيا أو تعاونها الاستراتيجي لإنقاذ التعددية أو تعدد الأطراف وتغير المناخ. وفي مواجهة الوضع المضطرب الذي يمثّله اليوم الجوار الجنوبي لأوروبا لا سيما المستنقع الليبي الذي " يهدد بالانفجار و حريق إقليمي له عواقب لا يمكن التنبؤ بها لمنطقة البحر الأبيض المتوسط " نحن في حاجة أكثر من أي وقت مضى لأوروبا موحدة . أوروبا التي ظهرت انقساماتها - خاصة بين فرنسا وإيطاليا - تحمل مسؤولية كبيرة في الأزمة الليبية وعليها بالتالي تدارك الأمر قبل فوات الأوان.
وفي السنوات الأخيرة كرست المفوضية الأوروبية أهمّ أعمالها لمعالجة المشاكل التي تتطلب رد فعل فوريّا . وقد واجهت على التوالي الأزمة اليونانية و الهجمات الإرهابية والاستفتاء لصالح خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي و أزمة اللاجئين .وقد أثار حجم هذه الأزمات بشكل كبير الشكوك إزاء أوروبا المحاصرة بانقساماتها وإزاء " أجندا " مفروضة مباشرة من قبل الظروف والأوضاع الدولية.
( انتهى )
التعليقات
علِّق