مسلسل " الفوندو " على الحوار التونسي : لهذه الأسباب هو أخطر مليون مرة من " أولاد مفيدة "
انقضى النصف الأول من شهر رمضان وبات بالإمكان تقييم بعض الإنتاجات التي بثّت أو تبثّ في مختلف القنوات التونسية . ونظنّ أن الوقت الذي مضى يسمح بتقييم موضوعي بعيد عن العاطفة أو الرأي الانطباعي الذي يجانب الصواب في أغلب الأحيان .
ومرّة أخرى يستأثر المسلسل الرئيسي للحوار التونسي بنسبة مشاهدة أرفع مقارنة بمسلسلات وأعمال أخرى تبثّ بالتوازي معه أو قبله أو بعده على غرار أولاد مفيدة الذي شاهده العديد من التونسيين في المواسم الماضية رغم ما فيه من ألغام ومحتوى جاء ليضرب آخر ما تبقّى من قيم ومبادئ تونسية لدى التونسيين.
ويبدو أننا أصبحنا أمام حقيقة واضحة وهي أن ضحالة الانتاجات على القناة الوطنيّة وبعض القنوات الأخرى التي تدّعي أنها تحارب التفسّخ الأخلاقي وتدافع عن قيم المجتمع هي التي تدفع التونسيين إلى البحث عن مشاهدة أي شيء آخر حتى لو كان الشيطان بذاته ... وهذا أيضا ما حدث هذا الموسم من خلال اندفاع الناس نحو مشاهدة مسلسل " الفوندو " ليس لأنه الأفضل والأحسن بل لأن الأعمال الأخرى بمختلف أنماطها وعلى كافة القنوات لم تقدر على شدّ التونسيين بالرغم من التأليه الذي أضفاه بعضهم على بعض الأعمال قبل شهر رمضان وقال لنا إننا سنشاهد أروع الروائع هذه السنة لكننا لم نشاهد إلا أتفه التفاهات .
وعندما قلت في عنوان هذا المقال إن " الفوندو " أخطر مليون مرة من أولاد مفيدة فليس ذلك من باب التجنّي المجاني أو رمي التهم جزافا أو التحقير والحطّ من قيمة أعمال الناس .
السمّ في الدسم
إن أخطر ما في هذا المسلسل هو أن أصحابه قدّموا شخصياته ( كلّها تقريبا ) في شكل يحبّب الناس فيهم ويجعل المشاهد يتعاطف معهم فينسى في لحظة أنه أمام شخصية لا تستحقّ التعاطف بقدر ما تستحق المحاسبة . فعلى سبيل المثال بدا " يحي " مستضعفا مظلوما ومحطّما من داخله فاستطاع أن يجلب تعاطف الناس معه وبالتالي ينسى المشاهد في لحظة ما يأتيه يحي من أفعال هي في النهاية جرائم على غرار ما فعله مع " صانع عرفه " سابقا عندما استرجع منه الأموال والذهب وعلى غرار ما فعله مع " عرفه " عندما تعمّد سرقة ما يحتويه من ذهب و مجوهرات بدعوى أنه أراد مساعدة مشغّله على الخروخ من أزمته لكنّه في الواقع احتال على شركة التأمين وأوهم بجريمة ... إلى غير ذلك من الأفعال التي لا يمكن أن تجعلنا نتعاطف مع من يقترفها . وفي نفس السياق قدّم لنا أصحاب العمل كمال التواتي في دور الرجل الطيّب " المثالي " الذي يشفق على يحي ويعتبره مثل ابنه ويتصرّف بنوع من التلقائية و" الشهامة " إلى درجة أننا ننسى بسرعة أنه متحيّل دخل السجن في أكثر من مرّة ليس لأنه مظلوم بل لأنه سارق ومتحيّل ... فهل يريد منّا أصحاب المسلسل أن نتعاطف مع كل سارق ومتحيّل أم تراهم يريدون أن يصلوا بنا إلى " حقيقة " واحدة وهي أن السرقة والتحيّل والنصب أصبحت أمرا عاديا في مجتمعنا وأن الوقت قد حان لنطبّع معها دون أن نخجل لا من غيرنا ولا من أنفسنا ؟؟؟.
نفس الشيء ينطبق على " جوزيف " الذي جلب تعاطف الناس معه من خلال تلقائيته والظهور بمظهر " ولد باب الله " ... وينسى الناس بسرعة أنه يتعاطى المخدرات ويحوّل محل عمله ورزقه إلى وكر بعلم ابنه المراهق الذي لا يمكن له في النهاية إلا أن يكون نسخة منه بما أنه مثله الأعلى وللأسف في أشياء سلبية وليس في أمور إيجابية.
أما " سليم " فهو يمثّل التفكك الأسري في أسمى معانيه ... هو ابن المليونير ( أو الملياردير ) الذي لا يهتمّ إلا بنفسه فنراه من خلال المسلسل قد أضاع ابنه وننسى في لحظة أن ابنه راشد وأن له عقلا يميّز به بين الغثّ والسمين ... وبسرعة أيضا ننسى أنه يعيش حياته طولا وعرضا ويلعب القمار فيخسر في " لعبة " سيارة يكفي ثمنها لإعالة 100 أسرة محتاجة أو أكثر.
وأما " ريم " فهي ( حسب المسلسل ) رمز للفتاة المتحررة التي تعمل كل شيء وأي شيء وفي أي مكان وفي أي وقت ... فلا أمها ( الطبيبة ) تحاسبها أو تسألها ولا هي تقيم أي وزن للمجتمع الذي تعيش فيه فتسمح لنفسها بإقامة العلاقات خارج الإطار وبأن تفعل ما يمليه عليها دماغها ... وهي في النهاية تعيش في شبكة علاقات يحاول جماعة المسلسل أن يصوّروها لنا عاديّة وموجودة ولا غرابة فيها .
وحتى " أم يحي " التي من المفروض أنها امرأة من حيّ شعبي لا تعيش حياة " البذخ والتحرّر " التي يعيشها الآخرون فقد انساقت في اللعبة وطلبت من ابنها أن يتزوّج " ريم " بسرعة " لأنها فتاة أعجبتها دون أن تسأل عن أصلها وفصلها على غرار ما تفعل كل أم في مثل حالتها .
خلاصة القول
إن الفرق بين أولاد مفيدة و" الفوندو " أن الأوّل قدّم لنا شخصيات مباشرة بأفعالها المباشرة التي تراوح أغلبها بين الأخطاء والجرائم وقدّم لنا نظرة أصحابه ( المسلسل ) وتصوّرهم للمجتمع الذي أرادوا أن يوهموا الناس أنه مجتمعنا كلّنا دون استثناء وأن الثاني قدّم لنا شخصيّات " تسخّف " ليقدّم لنا نفس الرؤية ونفس التصوّر للمجتمع لكن بطريقة مختلفة لا تخاطب العقل بل تخاطب العاطفة قبل العقل.
وفي كلا المسلسلين فإن الأمر واضح : جعل كل ما هو شاذ واستثنائي في المجتمع أمرا عاديا والعمل على جعله مقبولا بلا أي حرج . فهذا المسلسل ( الفوندو ) ومرّة أخرى يقدّم لنا عالما يعتمد على الحظّ والحيلة والسرقة والنهب وبالتالي يلغي مفهوم العمل من حياة الناس ويدفعهم إلى التعويل على الحظ وعلى هذه الأمور التي ذكرنا . وهنا نسأل أصحاب المسلسل : إذا كانت غايتكم معالجة بعض الأوضاع في المجتمع وليس تأزيمها فلماذا لم تقدّموا لنا أي نموذج لشاب ناجح استطاع أن يشق طريقه وأن يحقق أحلامه بواسطة الاجتهاد والعمل ؟؟؟.
أعرف أن الإجابة صعبة لأن الغاية من هذا النوع من المسلسلات ليست الإصلاح بل التدمير والدفع إلى ما يريده الآخرون لنا . صحيح أن كل " البلاوي الزرقاء " التي حكوا عنها وغيرها موجودة في مجتمعنا لكنها موجودة لدى بعض الفئات التي نعرفها جميعا وليسن معمّمة على كافة فئات الشعب . وإذ نعيب على هذه المسلسلات ما نعيب فلأنها تتعمّد ألّا ترى إلا 20 سنتيمترا أمام قدميها ... ونحن ندرك أن اللعبة كبيرة جدّا لذلك نتكلّم وننقد عسى أن يدرك التونسيون أن هذه المسلسلات لا تريد لهم الخير حتى إن بدت مغلّفة بالبراءة أحيانا وبشخصيّات " تسخّف " .
جمال المالكي
التعليقات
علِّق