في ذكرى ملحمة كاناي : يوم كان الذكاء يمشي وسط المعركة

يوافق يوم 2 أوت ذكرى معركة كاناي الشهيرة التي دارت مجرياتها سنة 216 قبل الميلاد أي خلال الحرب البونيقية الثانية. يومها إستعمل حنبعل تكتيكا عسكريا أذل به الرومان و أذهل به العالم.
بفضل خطة عسكرية محكمة إستطاع حنبعل أن يهزم جيوش الرومان التي بلغ عددها أضعاف جيشه. تفاصيل.
تمركز الجيش الرّوماني
نزل القسم الأهمّ من الجيش الرّوماني يوم 2 أغسطس ( أوت) بمحاذاة نهر الآوفيدوس (الذي كان شبه جاف ممّا يسهّل عبوره) و إتّخذ موقعا محاذيا للمعسكر الصّغيرعلى الضّفة اليسرى قريبا من القرطاجييّن. ثم إنتظمت الصّفوف الرّومانية في السّهل الشّاسع الواقع غرب كاني بينما إجتاز جيش حنّبعل الآوفيدوس متّبعا خطاها. أمّا فرسان روما فكانوا يتمركزون على الأجنحة تحت قيادة باولوس Paulus الذي كان يقود القسم الأقرب للنّهر. ومن المعروف عن جيش روما منذ العصور القديمة أنّ قائد الفرسان يتولى بنفسه القيادة العليا للجيش كلّه ، وبهذا لا يكون وارون هو القائد الأعلى في ذلك اليوم كما يلحّ على ذلك المؤرّخون القدامى، بل كان باولوس إيميليوس، و كان وارون يقود الفرسان المحتشدين على الطّرف الآخر من الصّفوف الرّومانية حيث السّهل. وبأمر من القنصل سرويليوس، تجمع كلّ المشاة الرّومان في وسط الجيش في كتلة ضخمة على غير العادة .
استعدادات الجيش القرطاجي
وضع حنّبعل مشاته الأقلّ تسليحا مقابل المشاة الرّومان في شكل هلال كبير بشكل تتعاقب فيه كتائب من الغالييّن والإيبيريين وجعل وراء طرفيه مجموعتين متساويتين من كتائب المشاة الثّقيلة: اللّوبيون الذين سلحهم قائدهم على النّمط الرّوماني بعد معركة ترازيمينوس و كانوا يحملون الدّروع و السّترات الواقية الرّومانية. كما أوكل القرطاجي لآزربعل قيادة الفرسان الأكثر تسليحا والمنتشرين على طول ضفة النّهر في أقصى يسار الجيش و أمر الفرسان النّوميديين بالبقاء على الجانب الآخر. بعد ذلك، تولّى حنّبعل بنفسه قيادة القسم الأوسط من الجيش حيث سيبدأ تنفيذ خطّته في التّراجع التّكتيكي.
خطة حنبعل
ليس مصادفة بقاء خطّة حنّبعل في كاني من ضمن أشهر الخطط على مدى التّاريخ العسكري، بل كان ذلك نتيجة منطقية لإعدادها الدّقيق و لتكتيكها المتقن. حيث شرع القرطاجي في إعدادها بعناية غداة معركة ترازيمينوس معتمدا تغييرا جذريا في طرق القتال الّتي يتوخّاها جيشه و خاص كتيبة المشاة الثقيلة و كتيبة اللوبيين المتميّزين الذين صاروا مسلحين على النمط الروماني و مدربين على الهجوم في وحدات صغيرة من بضعة افراد.
كان الشكل المحدبّ لقلب الجيش يهدف إلى جذب الكتائب الرومانية نحو الوسط حال هجومها حيث توجد أقرب الفرق القرطاجية وستساعد هذه الكثافة في الوسط في دفعهم إلى داخل المصيدة الّتي يهيّئها لهم حنّبعل. كم أن الرّومان سيفهمون التّراجع الاستراتيجي للقرطاجيين (السريع في الوسط و البطيء على الأطراف) على أنّه انسحاب. و هكذا فإنّ تحوّل المقدّمة القرطاجية من الشكل المحدب إلى الشكل الأجوف سيستدرج العدو نحو الوسط و سيخفي جزئيا كتيبة المشاة الثقيلة من الأفارقة المجهزين على الطريقة الرومانية و المتربّصين على الأجنحة و سيخيّل للرّومان أنّهم زملاءهم. وبانتهاء التراجع الإستراتيجي سيكتشف جيش روما و جود اللوبيين (المسلحين مثلهم) الذين سيقومون بربع إستدارة نحو الوسط لتطويقهم. وبذلك سيصبح التقدم الروماني بطيئا بفاعل الدهشة و الذهول من جرّاء إكتشاف هذه الكتائب المصطفة بشكل دقيق على طرفي الجبهة بخوذات و وسيوف ودروع و سترات إخوتهم في السلاح الذين سحقوا في ترازيمينوس. و عندها سيمّر حنّبعل إلى الخطوة الموالية حيث يأمر رجاله في الوسط بالتّوقف عن التراجع و الإنطلاق نحو الهجوم . وعند وقوعهم في كماشة بين الجيوش القرطاجية الثلاث، سيتخبّط الرّومان في حالة من الإضطراب. و في النهاية يقضي مخطط حنبعل بتطويق كامل للقوات الرومانية بواسطة الفرسان الذين سيلتحقون ببقيّة الجيش لإغلاق الشراك على الخطوط الخلفية للرومان بعد أن يكونوا قد سحقوا الفرسان الرّومان.
بهذه الطّريقة الذّكية، سيقع الجيش الروماني بأكمله في الفخ وسيصبح تحت ضغط تقدّم القرطاجيين من كل الجهات ممّا لن يترك له أي حيّز للمناورة. و ستكون النتيجة مبهرة: فوحدهم الجنود في محيط الجيش الّروماني سيكونون قادرين على القتال، بينما ستجد الأغلبية الساحقة للقوات الرومانية نفسها دون أي إحتكاك مباشر بالعدو. و هكذا سيكون للقرطاجيين الحرّية الكافية للمناورة و للتناوب في القتال و غلق ثغرات جبهتهم بسهولة. أمّا على الجانب الآخر، سيكون الجيش الروماني محشورا في الوسط و ستبقى الغالبية الساحقة منه في هيجان غير مجدٍ قد يصل إلى حد إعاقة من يقاتلون.
كم يكون عدد المقاتلين الفعليّ من الرّومان؟
لنفترض على سبيل المثال أن 70 ألفا قد وقعوا في الفخ و انهم تجمعوا في كتلة شبه دائريّة و أن كل واحد منهم يحتل مترا مربعا واحدا مع سيفه و درعه: بحساب محيط هذه الكتلة، سنحصل على ما يقارب الكيلومتر. ونتيجة لذلك إن اعتبرنا وجود جنديّ رومانيّ واحد في كلّ متر مربع من هذا المحيط فإنّنا نستنتج بأنّ جنديا رومانيا واحدا من أصل 70 تقريبا هو في التحام مباشر مع جنود حنبعل!
أي بعبارة أخرى، فإن حنّبعل قد نجح بهذا التّكتيك الأسطوري في قسمة قوّة روما على سبعين بعد أن كانت قوّات روما تفوق قوّاته بثلاثة أضعاف.
لم يحدث أبدا من قبل أن اُبيد جيش بهذا العدد الهائل بأكمله دون أن يلحق أيّة خسائر مؤثرة في المنتصر. وإن كانت معركة كاني قد كلّفت حنبعل أقل من ستة آلاف رجل، فإنّ الرّومان قد خسروا ما يناهز التّسعين ألفا (من أصل مائة و عشرين ألف رجل) كان من بينهم صفوة الصّفوة كالقنصل باولوس ايميلويس والقنصل سرويليوس و ثلثا كبار الضباط و 177 شخصية برتبة سيناتور. أما القنصل الآخر ماركوس وارون فقد نجا بجلده بعد أن لاذ بالفرار نحو فنوزا Venosa مع بضعة آلاف من النّاجين. كما وقعت حامية المعسكر الرّوماني الكبير برمّتها في أيدي القرطاجيّن وهي تعدّ ما يناهز العشرة آلاف رجل بينما لجأ النّاجون إلى كانوزيوم Canusium (Canosa ) وكانوا بضعة آلاف.
التعليقات
علِّق