هل تصبح تونس بلد المليون " حشّاش "؟

هل تصبح تونس بلد المليون " حشّاش "؟

 


يقول الرئيس التونسي لأعضاء الحكومة في آخر مجلس وزاري عقد العام الماضي تحت إشرافه المباشر «ليس في نيتنا التشجيع على استهلاك المخدرات». ثم يردد على مسامعهم تأكيده السابق في الحملة الانتخابية من أنه «لن يمنح مستهلك الحشيش شهادة في حسن السيرة»، ويبلغهم في الأخير أن الدافع الوحيد وراء مشروع مراجعة قانون المخدرات المعروض أمامهم هو أخذ ما وصفها بـ»المعطيات الجديدة» التي حصلت في السنوات الاخيرة، وهي تزايد عدد الحشاشين و»المزطولين»، خصوصا من شباب المدارس، بعين الاعتبار، وخوف المسؤولين وقلقهم مما قد يسببه تطبيق القانون من نتائج عكسية قد تؤدي إلى «تحطيم مستقبلهم» عندما يزج بهم في السجون لمجرد أن يتم ضبط الواحد منهم لسوء حظه كما قال وسط مجموعة من الحشاشين.
كلام الباجي قائد السبسي الذي حرصت مواقع إخبارية على نقله صوتا وصورة لم يكن سابقة في تونس، فالحديث عن صرامة قانون «سنة سجنا وفيسبا» كما يعرف عادة في اوساط الشباب، في إشارة إلى العقوبة التي تسلط حتى الان على المستهلك المستجد، وهي السجن لسنة ودفع غرامة مالية بألف دينار، صار كالملح الذي لا يغيب عن نقاشات السياسيين والاعلاميين في البرامج الحوارية التي تعرضها محطات الاذاعة والتلفزيون المحلية، بل إن بعض الأصوات الحقوقية صارت تعتبر أن مراجعة القانون أولوية قصوى قد لا تقل اهمية واستعجالا عن أولوية مكافحة الإرهاب، التي يدعو لها الجميع بالليل والنهار. وما يعيبه هؤلاء المتحمسون للتعديل هو أن النص الذي يعود إلى بداية التسعينيات لا يغفر زلات الشباب وسقطاتهم حتى لو كانت صغيرة وتحصل للمرة الأولى، وعلى سبيل التجربة أو من باب الصدفة. كما انه يتسبب ايضا في كوارث مضاعفة لأن الزج بشاب يافع في السجن لمجرد استهلاكه سيجارة حشيش قد يفتح عينيه على مصائب أكبر داخل ذلك العالم المغلق والموبوء بالجرائم والمجرمين. أما الحل بنظرهم فلن يكون في محاولة إصلاح الشباب وتربيته، لأن ذلك سيأخذ وقتا وجهدا خارقين من الدولة، ولا في التفكير مطلقا بإصلاح السجون وجعلها مناسبة للآدميين وغير مفرخة أو منتجة لمظاهر الانحراف والشذوذ، بل هو فقط في سلوك أقصر السبل وأسهلها، أي في المبادرة إلى تعديل القانون وجعله أقل صرامة وزجرا بفتح الباب أمام البحث عن سبل تخفيف العقوبة، وحتى الغائها بشكل غير مباشر، عبر اسقاط العقاب عن «المزطول» والحشاش، وإقرار العقوبة البدنية فقط على التاجر والمروج، لأنه يظل بالنهاية المذنب الأكبر، عكس المستهلك الذي ستسلط عليه وفقا للمشروع الجديد، غرامة مالية مضاعفة ستقوم في الغالب أسرته بسدادها للخزينة العامة، بالنظر لصغر سنه ولبطالته في معظم الحالات.
أما ما قد يعنيه ذلك ببساطة فهو أن الدولة صارت أكثر براغماتية من السابق ولم تعد تفكر بشيء آخر سوى جمع العوائد المالية، وهي لأجل ذلك لا تجد نفسها مستفيدة في شيء من وراء الزج بالناس وراء القضبان والتكفل بأكلهم وشربهم وسماع الشكاوى والطلبات التي لا تنتهي للحقوقيين حول تحسين ظروف معاملتهم واقامتهم داخل السجون. لقد صارت الأموال التي سيدفعها السجناء الافتراضيون أفضل واهم لديها من تسليط عقاب بدني لن ينفعها بشيء. هل يئست حقا من اصلاح بعض ابنائها، ولاجل ذلك قررت أن تتجاهلهم وتدير ظهرها لهم بالكامل، وتعتبرهم مجرد أرقام في ميزانية دولة تعرف خزائنها صعوبات ملحوظة؟ ثم كيف سيكون مستقبل بلد لن يحاسب فيه «المزطولون» والحشاشون الصغار لانهم بنظر القانون ضحايا لجشع التجار والمهربين، ولا مسؤولية لهم على الاطلاق في ما حل بهم؟ لا أحد يملك جوابا واضحا عن كل ذلك، لكن هناك اثرا آخر قد تتركه تلك الخطوة في حال إقرارها رسميا من مجلس نواب الشعب، الذي يفترض أن يناقش المشروع ويعرضه على التصويت هذا الشهر، على علاقة الناس واستشعارهم لمعنى القانون وقيمة الارتباط العضوي بينه وبين ضوابط الدين والاخلاق. لا يتعلق الموضوع هنا بالجدوى من وراء تشديد العقوبات أو تخفيفها بقدر ما يهم علاقة التونسيين بالقانون، التي كانت ولازالت مشوشة ومهتزة وحتى عدائية في بعض الاحيان. السبب المباشر لذلك انهم لم يعتادوا، على مر تاريخهم المعاصر، على قبول أو تصور أن الغاية الاولى والاخيرة من وراء وجود القوانين هي ضمان أمنهم وسعادتهم، لا أمن وسعادة حفنة صغيرة من المحظوظين أصحاب السلطة والمال والنفوذ. لقد خبروا طويلا فنون التلاعب والخداع باسم القانون وعرفوا أن ذلك السيف المسلط دوما فوق رقابهم يستطيع متى أراد أن يميز بشكل واضح ودقيق بين المذنب والبريء، لكن لديه بالمقابل قابلية عجيبة تفوق الخيال للتمدد حينا والتقلص والانحسار أحيانا اخرى، تجعله يبدو مجرد خيال مآتة لا يخيف احدا سوى البسطاء والفقراء.
لم يكن غريبا أن يشعر التونسيون بأنهم في حرب مع تلك الترسانة الضخمة من اللوائح والاوامر والقوانين التي كان النظام يحصن نفسه بها وزادهم الاحساس بضعف الدولة وتراخي قبضتها، بعد هروب الرئيس المخلوع بن علي، حرصا على الانتقام والتحرر من تلك القيود التي وضعت لخدمة البعض والتضييق على الاخر كما يرون. وعلى عكس ما كان متوقعا لم تغير الديمقراطية شيئا من تلك النظرة، وظلت حتى قواعد المرور بالنسبة للكثيرين موضع شك وريبة، وهدفا مباشرا للخرق المتعمد والتجاهل المقصود. وبدا غريبا أن تخرج إحدى السيدات اواخر الشهر الماضي لتعلن لوسائل الاعلام أن شرطيا حرر ضدها مخالفة سير بسبب تعمدها عبور شارع بورقيبة في قلب العاصمة بدون انتظار اشارة المرور، وكان الاغرب من ذلك تلك الضجة التي احدثها الخبر، رغم أن المخالفة معروفة وموجودة في نص قانون الطرقات منذ السبعينيات. كما أنه بات معروفا أنه من بين المفارقات الكثيرة التي تحصل في البلد أن معظم المنادين بالدولة المدنية والمتحمسين لها في تونس، يخالفون القانون ويدعون لإسقاطه بشتى الأساليب المشروعة وغير المشروعة، فضلا عن انهم يتهربون من دفع الضرائب ويدعون الناس في بعض الاحيان إلى ذلك السلوك كأسلوب للتعبير والاحتجاج. وباسم تلك الدولة المدنية ترتفع الاصوات للمطالبة بقطع الجذور كليا بالدين والاخلاق، ويبحث جامعيون معروفون وحقوقيون عن اصول اخرى لقوانين البلد يطلقون عليها المرجعية الكونية التي تسقط بالانصياع الأعمى لها كل الحدود والمحرمات، وتفتح باسمها أيضا كل الأبواب على مصراعيها، أمام تقويض الدين ومحاربته بدعوى التجديد والاجتهاد. وبدلا من تصحيح الصورة وتعديلها، يتجنب حتى المتدينون الرد على تلك التشويهات خوفا من اتهامهم بالتطرف أو باستخدام الدين لاغراض سياسية، وهي التهم الجاهزة التي تلاحق كل من يعترض على الفتاوى التي يطلقها بين الحين والآخر بعض الاكاديميين من قبيل، أن القرآن لم يحرم الخمر بشكل واضح وصريح، أو انه لم يعترض ابدا على وجود البغاء واستمراره.
وامام كل ذلك يجد قسم واسع من الشباب نفسه في عزلة حقيقية عن المدنية والدين معا، فلا هو يقبل أو يدرك معنى وقيمة القانون، ولا هو يعرف أو يفهم أيضا طبيعة وحقيقة إســــلام قد يهجره ويتنكر له بالكامل، أو يدعي انتماءه له وتمسكه به بشكل خاطئ ومشوه.
ولأسباب معروفة لا تظهر على السطح غالبا إلا ارقام المقاتلين التونسيين في ما بات معروفا بمناطق التوتر في العالم، فيما تظل اعداد الحشاشين و»المزطولين» والساقطين في مستنقعات الجريمة والانحراف شبه مجهولة، رغم ما يعلن بين الحين والآخر من معدلات قياسية لانتشار المخدرات وباقي السموم الاخرى في صفوف طلـــبة المدارس بوجه خاص. ومع أن أصل الداء واحد إلا أن اختلاف الحلول قد يدفع بباقي اليائسين والخارجين عن سلطان الدولة إلى التحول يوما ما إلى الصف المقابل حتى ينالوا صفحها ورضاها وعقوباتها المخملية والصورية. وقد لا يكون غريبا في تلك الحالة أن تتحول تونس يوما ما إلى بلد المليون حشاش لا يملكون شهادات حسن السيرة التي تحدث عنها الرئيس في اجتماعه الاخير باعضاء الحكومة، ولا يعرفون فضـــــلا عن ذلك شيئا عن حاضرهم أو ما تخبئه الاقدار لهم ولبلدهم فــي مقبل الأيام والشهور.
٭ كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
المصدر : القدس

التعليقات

علِّق