وماذا لو كانت التعاضديات شيئا آخرا غير تجربة الستينات؟
كم من الوقت يلزمنا لنتخلص من بعض أدران الماضي؟ كم من الوقت نحتاج لإعادة النظر في بعض برمجيات عقولنا المتوقفة عن العمل؟ ومن بين هذه الأدران القديمة المتحجرة نظرتنا وفهمنا للتعاضديات..
أول ما يتبادر إلى ذهن التونسي عندما يسمع كلمة "التعاضديات" تتبادر صورة نمطية تحيلنا فورا إلى تجربة الستينات وإلى المرحوم أحمد بن صالح وإلى فترة وصفها لنا الأكبر سنا بأنها كانت "سوداء" خرجت منها البلاد مثخنة بجراح عميقة لم تشف منها إلا بعد سنين طويلة...
ولئن لم يكن هذا التوصيف بالمخطئ تماما فإن فيه الكثير من التجني وخاصة الكثير من التهويل الذي تعمده النظام البورقيبي حينها لمزيد إثقال كاهل الرجل الذي اجتهد، ولم يكن يوما وحده الحاكم بأمره، وقد يكون أخطأ حينها، ولم يكن المخطئ وحده. وفي المحصلة فإننا إلى حد الآن مازلنا لم نتصالح مع هذه الحقبة المهمة من تاريخنا الحديث ولم نتمكن من دراستها لمعرفة أسباب وصولنا إليها أوثمن خروجنا منها..
وها هي وزارة الفلاحة تقدم أول هذا الأسبوع، (الأربعاء 22 سبتمبر)، نتيجة دراسة مهمة أنجزت بالاشتراك مع "الجمعية التونسية الألمانية للتنمية التعاضدية " تحت عنوان (النمط التعاضدي، أساس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في تونس). وتخلص الدراسة إلى أن التعاضديات في تونس تعاني من صعوبة كبيرة في الوصول إلى التمويلات كما تعاني من غياب جهاز عمومي خصوصي للقطاع ومن نقص حاد في المعلومات لدى الإدارات الجهوية مما يجعل مسارات تكوين التعاضديات معقدة للغاية خاصة في القطاعات غير الفلاحية.
ونتيجة لهذا الوضع ونتيجة كذلك للصورة النمطية السلبية العالقة بالأذهان فإن القطاع التعاضدي في تونس يتميز بتواضع حجمه الاقتصادي وبضآلة مساهمته في التنمية منذ عقود في حين أن التعاضديات وخاصة في الدول الرأسمالية الأوروبية الكبرى تقوم بدور تنموي واجتماعي محوري في النسيج الاقتصادي.
وتبين الدراسة في هذا الصدد أن عدد التعاضديات الناشطة في تونس اليوم لا يتجاوز 443 تعاضدية فقط تشمل حوالي 48317 مساهما. وتنشط حواي 92 بالمائة من هذه التعاضديات في القطاع الفلاحي.
وقد بين الخبراء المساهمون في الدراسة أن إعادة تنشيط القطاع التعاضدي من شأنه أن يوفر الفرصة لمساهمة عدد أكبر من المواطنين وخاصة من النساء شريطة أن يعاد النظر في القوانين المنظمة للقطاع وأن تضع السلط العمومية الحوافز اللازمة لتوعية المواطنين أولا بأهمية التعاضديات ليس في الفلاحة فقط، بل وخاصة في مجال الخدمات التي تحتاجها الكثير من الجهات اليوم.
وقد أشار وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، محمد إلياس حمزة، إلى أهمية التشخيص الذي تقدمه هذه الدراسة والذي يمكن أن يكون قاعدة لتوسيع النمط التعاضدي وما يحمله من مفاهيم التضامن الاجتماعي ليتسع للقطاعات غير الفلاحية...
ولابد لنا اليوم أن ندرك أن ما شاب تجربة الستينات من أخطاء لا ينقص البتة من أهمية النمط التعاضدي الذي يتفرد بأنه الوحيد الذي يمزج بين الجدوى الاقتصادية والتضامن المجتمعي لأن المشاركين في التعاضدية هم أصحاب رأسمالها ولأن جدوى التعاضدية ليست مالية فحسب، ولكنها أيضا إنسانية من خلال ترسيخ مبدأ التعاون ومن خلال توفير الامكانية للمشاركين فيها لتجاوز عجزهم الذاتي عبر تجميع قوتهم.. وقد قال القدماء أن عاملا واحدا لا يمكن أن يبني عشرة منازل، ولكن 10 عمال يمكن أن يبنوا 10 منازل إن كانوا مجتمعين..
علي العيدي بن منصور
التعليقات
علِّق