واقعة "القاضية"، هل علينا أن نخجل؟!

واقعة "القاضية"، هل علينا أن نخجل؟!

بقلم : القاضي أحمد الرحموني

لنتفق على شيء، في سياق ما نعيشه من وضع استثنائي، مثلما لا يمكن بسهولة إخفاء اية شاردة (خاصة مع وجود اعلام الفايسبوك)، فإن كل الوقائع تقريبا لايمكن أن تصل لآخر متلق في حجمها الاصلي اوالطبيعي.! ومع ذلك(وبعد إسقاط بعض التفاصيل المتناقضة) فإن واقعة التهريب للعملة الصعبة التي تورطت فيها إحدى القاضيات(مهما كانت دوافعها) تبدو على حسب البيانات الرسمية ( الصادرة عن محكمة المنستير والديوانة و مجلس القضاء العدلي) ثابته في حقها إلى حين إقرار ذلك طبق الاجراءات القانونية.!

وفي انتظار محاسبتها (جزائيا وتاديبيا) ، رأى مجلس القضاءالعدلي رفع حصانتها القضائية وايقافها عن العمل. لكن هل ينتهي الموضوع إلى هذا الحد؟وما على القضاة الا ان ينحنوا امام الريح حتى تمر العاصفة؟!

هكذا يرى بعضنا الموضوع في صورة مواجهة بين القضاة وسائر الناس. وهكذا يخلط الناس بين الشخص والوظيفة، وكان علينا أن نتساءل هل كان من الضروري ان نعلن في كل مرة صفة من يقوم بالتهريب ونغفل اسمه ولقبه؟.

ومهما كان، لا أجد شخصيا حرجا في الحديث عن تلك الواقعة، خصوصا بعد ان أصبح تداول الأسماء القضائية من الظواهر المعتادة (الطيب راشد، البشير العكرمي...) لكن بالأساس لان تلك الواقعة لم تكتسب أهميتها (وحتى خطورتها) الا بنسبتها إلى أحد القضاة. وهو ما يحول الموضوع إلى شان عام قضائي يهم فساد القضاء(وهو واقع لم ينكره احد) فضلا عن الاخلاقيات القضائية.!

وربما لا يعلم الناس أن الجدل لم ينقطع في اوساط القضاة إزاء هذه الموضوعات سواء بمناسبة او بغير مناسبة وعلى حسب تنوع التركيبة الفكرية للقضاة وتوجهاتهم.

وحتى لا نبتعد كثيرا عن الموضوع، أرى أن مواقف القضاة بالنسبة لتلك الوقائع الشخصية المتداولة لاتخرج عن ثلاثة أصناف :

اولا-موقف القضاة الذين يفضلون الصمت لأنهم يعتقدون ان الخوض في السلوكيات الفردية لبعض القضاة هو خوض في "عرض القضاء" ومن شأن ذلك المس من شرف القضاء والتقليل من هيبته (وكما قال المتنبئ :لا يسلم الشرف الرفيع من الاذى *حتى يراق على جنباته الدم! ).

ومن الواضح أن هذا الموقف يصدر عن اعتقاد ان المس في شخص القاضي هو تجريح وان ذلك ينسحب على كافة القضاة حتى وان لم يكونوا طرفا في الواقعة!.

وقد يتطور هذا الموقف إلى حد الدفاع عن الشخص او التماس الأعذار الواهية تحت تأثير "الماسونية القطاعية"!

ثانيا-موقف القضاة الذين يعتبرون (حتى علانية) ان الانحراف السلوكي للقاضي هو ظاهرة غير طبيعية بالنظر إلى مثال" القاضي الأمين الشريف" وان ردود الأفعال يجب أن تكون في مستوى" الاخطاء التاديبية" فضلا عما يستوجبه الامر من تطبيق للآليات القانونية بكل شدة وصرامة.!

ويعتبر هؤلاء القضاة - ضمنيا-ان المعالجة يجب أن تكون فردية وردعية حتى أن اضطررنا إلى قطع العضو حتى يسلم الجسم.!

ثالثا-موقف القضاة الذين يعتبرون ان مثيل هذه السلوكيات (على فداحتها) هي من جملة الظواهر الطبيعية التي تولدها شروط موضوعية لا ترتبط فقط بالقضاء بل تسري على كل مؤسسات الدولة. ولذلك فإن بروز ظواهر الفساد (التدخل في الاجراءات القضائية، الرشوة الخ...) لا تقتضي فقط معالجة فردية عبر تطبيق الآليات القانونية (المحاسبة، العقاب) بل تستوجب اخضاع المؤسسة القضائية(كغيرها من مؤسسات الدولة) إلى معايير دولة القانون من خلال عملية اصلاحية عميقة تهم في ان واحد الأشخاص (قضاة، مساعدو قضاء..)و الهياكل (المحاكم، المجالس القضائية، الوظائف القضائية...).

وان الموقف الاخير- الذي اتبناه- يعتبر إضافة لذلك ان عملية الإصلاح العميقة (سواء للاشخاص او الهياكل) لم تتم، وفي احسن الأحوال كانت عملية جزئية غير مكتملة.

فرغم ان القضاء بعد الثورة اصبح اكثر خضوعا للرقابة العامة (المجتمع

، الصحافة...)إضافة إلى ان القضاة التونسيين كانوافي طليعة من طالب باخضاع المنظومة القضائية للإصلاح (وحتى للتطهير بمعناه المكرس في العدالة الانتقالية) الا ان المؤسسة القضائية لم تخضع إلى الآن إلى عملية إصلاح منهجية وان السياسيين (أصحاب المبادرات التشريعية) وكذلك المتدخلون في مسار العدالة الانتقالية وبدرجة ربما اقل القضاة أنفسهم قد فوتوا على البلاد فرص الإصلاح المتعلقة بالمنظومة القضائية.

ومن الطبيعي ان يجد القضاء نفسه طبق هذه المعطيات في مواجهة تلك الظواهر السلوكية .

فكيف للقضاء ان يكرس قيمه في غياب مدونة سلوك مشتركة وفي غياب التأكيد على خطاب النزاهة والمسؤولية بالتوازي مع خطاب الاستقلالية.!؟

وكيف للقضاء ان يرسخ في ضمائر القضاة حقوقهم وواجباتهم في ظل قانون اساسي (على الاقل بالنسبة للقضاة العدليين)صدر منذ أكثر من نصف قرن؟!

وكيف للقضاء ان يؤسس للمسؤولية

القضائية اعتمادا على مجلس أعلى للقضاء فاقد لصلاحياته الدستورية، تشقه الخلافات وتتنازعه المصالح وتتقاذفه المنافع؟!

وكيف للقضاء ان يفرض احترامه و كرامته تحت ضغط الشارع و في ظل ابتزاز الأحزاب وازدراء السياسيين؟!

 

التعليقات

علِّق