وأخيرا كشف رئيس الجمهورية عمّا يريد ...

وأخيرا كشف رئيس الجمهورية عمّا يريد ...

بمناسبة إشرافه على موكب ذكرى العيد الخامس والستين لقوات الأمن الداخلي، وكما كان متوقعا، لم يٌفوّت رئيس الجمهورية قيس سعيد الفرصة لمزيد تأجيج "حريق الصلاحيات" بين "قرطاج" و"القصبة" وذلك بإعلانه "بأنه القائد الأعلى للقوات العسكرية والأمنية" فى مشهد  درامي قاتم لم تعرفه حتى "الأغورا" Agora الإغريقية فى أحلك فتراتها.. مداخلة  نارية تستحق منا التوقف عند أهم بواباتها الأمامية والخلفية .

1- من حيث الشكل 

-  مداخلة خٌطّت بأحرف من اللّهب تم "التبريف" لها مسبقا فى سياقات عامة موبوءة صحيا، اقتصاديا وسياسيا الى أبعد الحدود،

-  مسرحة مباشرة على الهواء  "لحرب الصلاحيات الدستورية"  تواترت فيها جميع مشاهد الويل والثبور والتوظيف السياسوي للدساتير فى مناسبة كان يفترض أن يحرص رئيس الجمهورية  قبل غيره باعتباره رمزا لوحدة الدولة - الفصل 72 من الدستور  على عدم إقحام المؤسسة الأمنية فى معركة كسر العظام بين "قرطاج" و"القصبة".  

2- من حيث الأصل

أولا : من باب التّصويب  لما ورد فى كلمة رئيس الجمهورية فان الفصل 44 من الدستور  التونسي لسنة 1959  نصّ صراحة  على "أنّ رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة"، ولم ترد اطلاقا عبارة "العسكرية" فى منطوق نفس الفصل  من الدستور فى نسخته النهائية،

ثانيا : أنّ العٌرف الدستوري فى العالم بأسره درج على استخدام لفظ عبارة "القوات المسلحة"  فى إشارة حصرية مباشرة  للمؤسسة العسكرية لا غير،

ثالثا  : لا نعثر على الإطلاق   فى متن دستور 2014  بمختلف أبوابه وأقسامه على أي  توصيف   لقوات الأمن الداخلي والديوانة بأنها "قوات مسلحة"  بل على العكس تماما فقد حرص واضعي الدستور فى الفصول 17 و18 و19 على التفريق   المنهجي  بين مختلف هذه الأسلاك درءا لكل خلط  للمفاهيم بين "القوات المسلحة " (المؤسسة العسكرية حصرا ) و"القوات الحاملة للسلاح"  من قوات الأمن الداخلى وسلك الديوانة،

رابعا  : الاحالة المسقطة والمتكررة للمداخلة على دستور 59 يكشف ما يعتمل  داخل  رئيس الجمهورية الذى  يتعاطى مع دستور 2014 "البرلماني المٌعدّل بامتياز" باحداثيات دستور 1959 الذى تأسس على فلسفة نظام سياسي رئاسي حيث تتركز تقريبا جميع السلطات التنفيذية بيد رئيس الجمهورية أنذاك،

خامسا : لا يجوز لرئيس الجمهورية او غيره على إصدار حكم  نهائى  وبات بعدم دستورية هذا القانون او ذاك بل فقط له الحق كل الحق بالدفع بعدم دستوريته لدى الجهة القضائية المختصة (الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين فى ظل الغياب المتعمّد للمحكمة الدستورية )، خلاف ذلك يعدّ خرقا صارخا لمبدأ تفريق السلط، 

سادسا : على غرار جميع الدساتير المقارنة، فان منطوق الفصل  146 من باب "الأحكام الختامية" من الدستور ينصّ " تٌفسّر أحكام الدستور  ويٌؤوّل  بعضها البعض كوحدة منسجمة" وبالتالى فإن أي قراءة انتقائية ومجزّءة لوحدة النص الدستوري تٌعدّ محاولة زقفونية يائسة لاختراق  أسوار العقد المجتمعي الذى يجمعنا (الدستور)،

سابعا : فان منح الفصل 77 من الدستور- فى مطّته الثالثة - لرئيس الجمهورية "القيادة العليا  للقوات المسلحة" فانه بالمقابل حدّد نطاقها المؤسسي périmètre institutionnel فى الفصل 17 من نفس  الدستور حيث تم التمييز بمنتهى الوضوح بين القوات المسلحة من جهة وقوات الأمن الداخلي الديوانة من جهة ثانية وذلك بتنصيصه : " تحتكر الدولة انشاء القوات المسلحة، وقوات الامن الداخلي ، ويكون ذلك بمقتضى القانون والصالح العام ".،

كما ان الفصول 18 و19 حدّدت بشكل دقيق  المهام الأساسية الموكولة للمؤسسة العسكرية من جهة والمؤسسة الأمنية من جهة أخرى دفعا لكل لبس ممكن، 

ثامنا :  أيضا الفصل 78 من الدستور كان  حاسما وقطعيا فى هذه المسألة حيث حدّد طبيعة ونطاق التعيينات والإعفاءات الراجعة بالنظر لرئيس الجمهورية وهى " التعيينات فى الوظائف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة بالأمن القومي (وليس الأمن الوطنى) بعد استشارة رئيس الحكومة"  وبالتالى لا تدخل تحت ولاية هذا البند الدستوري  بأى شكل من الأشكال قوات الأمن الداخلي او أية قوة عمومية أخرى حاملة للسلاح،

بالنهاية أمسى من الواضح  أن شهية رئيس الجمهورية الدستورية لا حدود لها، وأننا مقبلون لا محالة على مرحلة "كوفيدية" قزحية الألوان يتداخل فيها الصحي بالسياسي بشكل مقرف ومخيف ...

بقلم : محجوب لطفي بلهادي (باحث فى القانون العام والتفكير الاستراتيجى) 

التعليقات

علِّق