هل بات التعليم في تونس لمن استطاع إليه سبيلا ؟

هل بات التعليم في تونس لمن استطاع إليه سبيلا ؟

 

"التعليم يصنع وطنا"، "التعليم هو أقوى سلاح من الممكن استخدامه لتغيير العالم"، أقوال تبيّن أهمية التعليم ودوره في صناعة الشعوب والنهوض بها.

وبالنظر إلى حال الشعب التونسي وخاصة شبابه، نعي جيدا الأزمة التي تمرّ بها منظومة التعليم في تونس والتي خلّفت 742.8 ألف عاطل عن العمل  من إجمالي السكان النشطين الذين يفوق عددهم 4.1 مليون شخص، وفق مؤشّرات التشغيل والبطالة للثلاثية الأولى من سنة 2021 التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء.

أزمة كانت نتيجتها حلول تونس في المرتبة 84 عالميا والسابع عربيا، في مؤشر جودة التعليم ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻋﻦ المنتدى ﺍﻻقتصادي ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ دافوس 2021، من أصل 140 دولة.

الهروب من شبح البطالة والمستقبل الضبابي إلى أحضان التعليم الخاص وحلم المستقبل الباهر

انهيار منظومة التعليم العمومي الذي أصبح آلة لتفريخ العاطلين عن العمل من ذوي الشهائد العليا، وتعطل مسار إصلاح منظومة التعليم العمومي خلال العشر سنوات الأخيرة منذ 2011، ساهم في تغلغل التعليم الخاص الذي مثّل ملجأً للعائلات التونسية، حتى متوسطة الدخل منهم، لإنقاذ أبنائهم من شبح البطالة وضمان مستقبل أفضل لهم.

حيث شهدت تونس موجة نزوح نحو التعليم الخاص غذّتها تعمق أزمة التعليم العمومي بما شهدته من إضرابات وارتفاع منسوب العنف في مؤسسات التعليم العمومية  ومزيد تدني جودة التعليم وضعف المناهج البيداغوجية وعدم ملائمتها للتحولات الاقتصادية.

وأصبحنا أمام مسارين ;تعليم خاص نخبوي باهظ للطبقات الثريّة ومن استطاع إليه سبيلا من أبناء العائلات المتوسطة، وتعليم عمومي لأبناء الطبقة الفقيرة ومتوسطة الدخل بشهادات ورقية غير معترف بها تفرّخ أجيالا من العاطلين عن العمل.

حيث ارتفع عدد المدارس الابتدائية من 234 مدرسة سنة 2010 تفتح أبوابها لـ 60313 تلميذ إلى 622 مدرسة خلال 2020 تقدم خدماتها لـ 101091 تلميذ.(وزارة التربية الكتابة العامة اإلدارة العامة للدراسات والتخطيط ونظم المعلومات السنة الدراسية 2020 / 2021)، إذ يُفضل الأولياء أن يرتاد أبنائهم المدارس الابتدائية الخاصة سعيا إلى تحسين أدائهم  في اللغات الأجنبية تماشيا مع متطلبات سوق الشغل في المستقبل، فضلا عن جودة التعليم الخاص بالمقارنة مع المدارس العمومية، فالواضح أنّ تلميذ التعليم الابتدائي العمومي ليست لديه القدرة الكافية على كتابة نص بلغة أجنبية صحيحة وعاجز تماما عن التواصل بها، بينما تتوفر هذه المهارة لدى تلاميذ التعليم الابتدائي الخاص.

كما يمثل التعليم الخاص أيضا طوق النجاة لتلاميذ المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية من الذين استوفوا حقهم في التعليم العمومي بسبب الطرد من أو الرسوب عدة سنوات في نفس المرحلة الدراسية، حيث يضمن لهم التعليم الخاص حقهم في مواصلة مسارهم التعليمي رغم مستواهم المعرفي المتدني. يُمثّل ذلك ضربا واضحا لمبدأ المساواة في النفاذ للمعرفة، فتلميذ من الطبقة الفقيرة تم طرده من المعاهد العمومية بسبب إشكال أو لم تمكنه درجة استيعابه من الارتقاء من سنة إلى أخرى، ستتلاقفه شوارع البطالة والإنحراف والمخدرات وغيرها، أو سيضطرّ للعمل أجيرا بمبلغ زهيد لا يكفيه قوت يومه، بينما سيتمكن تلميذ الطبقة الغنية في نفس الوضعية من مواصلة مشواره الدراسي في التعليم الخاص وسيضمن لنفسه "مستقبلا زاهرا"، بأسهل السبل بعد أن أصبحت المعرفة والتعليم في المعاهد الثانوية والإعداديات الخاصة، سلعة يتم شراءها بالمال دون بذل مجهود.

وقد ارتفع عدد الإعداديات والمعاهد الثانوية الخاصة من 346 مؤسسة تعليمية سنة 2015  تقدم خدماتها لـ 58706  تلميذ إلى  467 مؤسسة سنة 2020 يرتادها 82180 تلميذ.(وزارة التربية الكتابة العامة الدارة العامة للدراسات والتخطيط ونظم المعلومات السنة الدراسية 2020 /2021)

مؤسسات التعليم العالي هي الأخرى ليست بمنأى عن تيار سلعنة المعرفة والشهادات حيث بلغ عدد مرتادي التعليم العالي الخاص 35395  طالب موزعين على 74 مؤسسة خاصة ( وزارة التعليم العالي مكتب الدراسات والتخطيط والبرمجة السنة الدراسية (2019 /2020)

تعليم عالي خاص يرتاده أبناء الطبقة الثرية والمتوسطة حالمين بمستقبل باهر ضاربين مبدأ تكافؤ الفرص عرض الحائط، فطالب من الطبقة المتوسطة أو الفقيرة لم يمكنه مجموعه في البكالوريا من ارتياد الاختصاص الذي يرغب به سيجد نفسه مضطرا لدراسة اختصاص دون اهتماماته وسيكون مستقبل عاطل عن العمل، في المقابل فإنّ طالب في نفس الوضعية من الطبقة الثرية سيتمكن من متابعة دراسته في الاختصاص الذي يريده، أو إحدى الاختصاصات العلمية ذات الآفاق التشغيلية العالية.

حيث تَعدُ مؤسسات التعليم العالي الخاص المسجلين لديها بالتشغيل الفوري إثر التخرج بحكم علاقاتها مع شركات عدة أو حتى شراكتها معها، وهكذا يتم إنتاج النخب على أساس طبقي.

التكاليف المشطة وكذبة الجودة في التعليم الخاص :

تردي المقدرة الشرائية للعائلات التونسية خلال العشرية الأخيرة لم يمنعها من النزوح إلى مؤسسات التعليم الخاصة رغم الارتفاع المشط للتكاليف، فقد بينت منظمة الدفاع عن المستهلك من خلال استبيان قامت به سنة 2018، شمل عينة متكونة من 145 ولي، اختاروا تدريس أبنائهم في التعليم الابتدائي الخاص في ولايات تونس ومنوبة ونابل وبنزرت أنّ تكلفة الترسيم تترواح بين 60 دينار و 980 دينار في حين تتراوح تكلفة الثلاثي بين 100 دينار و1850 دينار وبالنسبة للتكلفة السنوية فتتراوح بين 1100 دينار و9 آلاف دينار . 

وبين المحامي أكرم الباروني عضو منظمة الدفاع عن المستهلك خلال ندوة صحفية تم خلالها عرض نتائج الاستبيان أن تعريفة التعليم الخاص في تونس غير محددة بأي نص قانوني ولا تخضع لرقابة أي جهة حكومية.

إذ لا يبدو التعليم الخاص بالصورة المشرقة التي يروج لها أصحاب هذه المؤسسات، وذلك بالنظر إلى  التكاليف المشطة وغير المقننة في ظل سوق حر، تكاليف أفرغت جيوب الأولياء، حيث اعتبر 62 بالمائة من المستجوبين في استبيان منظمة الدفاع عن المستهلك أن كلفة التعليم الابتدائي الخاص عالية في حين قدرها 35 بالمائة منهم بأنها "مقبولة".

وبخصوص جودة التعليم الخاص فقد اشتكى 34 بالمائة من المستجوبين حول قطاع التعليم الابتدائي الخاص من المدرسين والجانب البيداغوجي، في حين علّق 28 بالمائة منهم عن غياب الشفافية. وحاز الازدحام بقاعات الدرس نسبة 21 بالمائة من التشكيات.

وتتوزع باقي التشكيات بين التواصل والإدارة بنسبة متساوية 20 بالمائة  والبنية التحتية 17 بالمائة والتمييز بين التلاميذ  16 بالمائة، وفق نفس الاستبيان.

وبالعودة إلى نجد أنّ 10 بالمائة من الأولياء الذين يدرس أبناءهم بمدارس ابتدائية خاصة غير راضين عن خدمات هذه المؤسسات، واعتبر 6 بالمائة فقط من المستجوبين، أن خدمات هذه المدارس لها نسبة " رضا عالية ".

الحل في النهوض بالتعليم العمومي :

يبدو الحل الأنجع في النهوض بالتعليم العمومي ودوره كمصعد اجتماعي لذوي الطبقة الفقيرة والمتوسطة، حفاظا على مبدأ المساواة في النفاذ إلى المعرفة.

لقد بات عاجلا استئناف مسار الإصلاح التربوي وإعادة الاعتبار لمنظومة التعليم العمومي واسترجاع الدولة لدورها الاجتماعي كضامن وحيد لإنتاج النخب، ومحاولة النأي بالتعليم عن مسار تحرير السوق ، حتى لا يصبح التعليم العمومي آلة لتفريخ العاطلين عن العمل ، ولا يتم  إنتاج النخب على أساس طبقي ولا يُحرم أبناء الطبقة الفقيرة و المتوسطة من حياة كريمة يضمنها لهم حقهم في تعليم عمومي ذو جودة.

بقلم إيمان الطياري

 

 

 

التعليقات

علِّق