من "صدام الحضارات" إلى "صدام الأنواع"...

من "صدام الحضارات" إلى "صدام الأنواع"...

فى مؤلّفه الشّهير "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمى" الصادر فى سنة 1996 ، خلص البروفيسور الأمريكى Huntington Samuel  إلى أن دينامية العلاقات الدولية  ما بعد "الحرب الباردة" ستٌبنى حصرا على مٌحدّد "الصدام بين  الحضارات" عوضا عن "الايديولوجيات"،  وستشهد  تحالف بين الحضارتين الإسلامية والصينية لمواجهة التفوق الغربي...

بقطع النظر عن مدى وجاهة هذه النظرية من عدمها والاستخدامات الجيواستراتيحية المٌروّعة  التى اتخذتها بٌعيد أحداث 11 سبتمبر 2001 ، أمسى من المسلّم به بأن البٌعد الحضارى للصراعات يٌعدّ معطى واقعى  factuel لا يختلف عليه اثنان..لا يتوقف عند تخوم الدول بل يتجاوزه إلى قلب الدولة الواحدة، فالصراعات الاثنية الدموية التى عرفتها  "يوغسلافيا" سابقا وما ترتب عنها من إعادة تشكيل للمشهد الجيوسياسى لمنطقة "البلقان" برمتها،  تؤكد بما لا يدع مجالا للشك الحضور القوى لهذا العامل الخفى والخطير فى تغذية الصراعات الدولية  وتأجيج المشاعر القومية الأكثر تشدد وراديكالية ...

فإن كان "صدام الحضارات" سيستمر بعناوين مختلفة، فإننا نجد أنفسنا اليوم عٌزّل حيال صدام كوني من نوع قديم-جديد .. "أبطاله" كائنات مجهرية تتألف من جيوش جرارة تتكاثر ذاتيا من بكتيريات وفطريات وفيروسات الخ التى لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.. تعيش بيننا منذ ألاف السنين .. تٌزيّن موائدنا فى شكل شرائح شهية من الجبن  المخمّر والنبيذ المعتق بكتيريا..  دهست  جميع الحضارات دون استثناء  فى فترات تاريخية متباعدة.. سمحت لعائلة "الفيروسات" من التطور الخارق وفق "نظرية الارتقاء الداروينية" لتبلغ مستوى الفيروس التاجى بصيغته الراهنة  COVID 19 .. أصابت مقوّمات العولمة فى مقتل من نقل للأشخاص والبضائع والأموال .. أودعتنا رهائن بالمليارات كفئران مخبرية داخل بيوتنا إلى أجل غير مسمى.. صيّرت  شوارعنا وأبراجنا الشاهقة التى نتفاخر بهما الى مدن أشباح .. منعتنا من الحق فى تقبيل أبناءنا وأحبابنا وحتى من التنفس والسعال.. عزّزت توجّسنا وخوفنا من الآخر الذى أضحى ناقل محتمل  للفيروس.. حوّلت أحد أهرامات الحضارة الغربية "ايطاليا" إلى مشهد جنائزي مسترسل وكأنّ  بسردية "نيرون" حول احتراق روما تنتفض من جديد ...

وان كان تاريخ الإنسان مع الأوبئة موغل فى القدم، فان COVID 19 يتفرّد عن النماذج الفيروسية السابقة بسرعة انتشاره الضوئي، وقدرته المحتملة على التحوّط الجينى، وفرضه  لنمط عيش غير بعيد عن الإنسان البدائي الذى لا يغادر كهفه إلا للبحث عن الغذاء... 

نرجسيتنا المقيتة المعبّر عنها بثقافة "مركزية الارض" التى  أسقطت من حساباتها مبدأ "النفعية المتبادلة"  symbiose  التى ينبغى أن تسود بيننا وبين مختلف الكائنات الحية لاستمرار الحياة على وجه الارض تمادت فى تقويض مختلف المنظومات البيئية بشكل ممنهج من براري وغابات وانهر وبحار باسم التقدم الصناعى والتوسع العمرانى مما سمح للفيروسات من التسلل داخل  الوسط البشرى للانتقام والفتك بنا...

فالفيروس SARS-CoV-2 الذى ظهر فى الصين منذ نوفمبر 2002 قبل ان يتحوّل إلى جائحة ، تتقاطع جميع البحوث العلمية أنه  انتقل من الخفافيش  chauves souris او من حيوان Le pangolin  الى الانسان، انتقال لم يكن ممكن لو لم يتعمد الانسان الى القضاء على الفضاء الطبيعى المفتوح  للخفافيش مما اضطرها  للبحث عن ملاذات قريبة من الوسط البشرى من ضيعات زراعية وتجمعات فلاحية لتأمين الحد الأدنى من شروط بقاءها ...

نفس المثال ينطبق على فيروس ايبولا Ebola  الذى تزامن تفشيه فى غرب افريقيا  مع عمليات  إزالة الغابات  Déforestation  المستمرة الى اليوم على حساب البيئة الطبيعية الحاضنة للخفافيش الحاملة للفيروس مما جعلها تتمركز على مقربة من التجمعات السكنية ومكنها من نقل الفيروس الى أحد أطفال المنطقة قبل ان تنتشر فيما بعد بشكل واسع .

اذا من المذنب الحقيقى فى خلق المشهدية الدراماتيكية الراهنة ؟ الانسان لا غير، الذى توهمنا انه انسان عاقل  Homo sapiens

قبل فوات الأوان من الجيد أن نعى ان للطبيعة أيضا آليات ذاتية للدفاع عن نفسها .. ميكانيزمات جرثومية رهيبة متحوّلة وتقلبات جيوفيزيائية غير متوقعة .. نجحت بعلامة امتياز فى حالة Covid 19 إلى نقل البشرية من زمن  "صدام الحضارات"  إلى "صدام الأنواع"  choc intra-espèces ما لم نعيد تموقعنا  داخل الطبيعة...

وبفعل التداعيات المباشرة للكورونا   تشهد العلاقات الدولية بداية تشكل نظام عالمى مختلف أكثر تعقيد يخضع أكثر فاكثر لقواعد نظرية الفوضى la théorie du chaos ، بموجبه ستٌحال العديد من النظريات الاستراتيجية الكبرى الى التقاعد الوجوبي لتفسح المجال لفكر استراتيجى  جديد يٌكتب برائحة الكورونا وعلى وقع الأعاصير والزلازل، فكر استراتيجى جديد يحاول الاجابة عبثا عن الاستشكال التالى : متى نتخلى  نهائيا  عن وهم  "محورية الانسان"  وحتمية "استخلافه للارض" فى زمن  خلنا ان  "نظرية "مركزية الأرض"  الأرسطية سقطت دون رجعة ؟

* محجوب لطفى بلهادى :مختصّ فى التفكير الاستراتيجى

صورة :  اندبندنت عربية

التعليقات

علِّق