مليارات الإشهار في تونس : كيف " تفسح " التلفزة الوطنية الطريق وتتخلّى عن حنفيات المال لفائدة قنوات الرداءة ؟

 مليارات الإشهار في تونس : كيف  " تفسح " التلفزة الوطنية  الطريق وتتخلّى عن حنفيات المال  لفائدة قنوات  الرداءة  ؟


لعلّ الكثير منكم يعرف أن سوق الإشهار في تونس رغم أنها ما زالت ضيقة مقارنة  ببلدان أخرى  فإنها تمثّل موردا ماليّا هامّا لوسائل الإعلام  بمختلف أنواعها . وفي القطاع السمعي البصري يمكن للإشهار أن يحدد حياة بعض وسائل الإعلام أو موتها ... ويمكن كذلك أن يحدد " الخطّ التحريري " لبعض الوسائل الإعلامية التي تتكيّف مع المستشهرين  من باب  " إنفع واستنفع " .
ولعلّ الكثير منكم يلاحظ خلال السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل أن حجم الومضات الإشهارية على القناة الوطنية الأولى ما فتئ يضمر ويتقلّص إلى درجة أننا لا نكاد نشعر بوجوده علما بأن نفس القناة كانت في وقت ما تحقق ما  معدّله 7 مليارات من عائدات الإشهار. وإذا علمنا أن الكثير من المستشهرين  كانوا " بالصفّ " أمام مقر التلفزة لحجز مساحات لمنتجاتهم خاصة خلال شهر رمضان  فإنه من حقنا أن نتساءل : أين ذهب  هؤلاء ولماذا أصبحوا " يختارون " قنوات أخرى  ويفضّلونها على القناة الوطنيّة ؟.

مغالطات
في وقت لم تكن لنا فيه غير 4 قنوات ( تونس 7 وتونس 21 وحنبعل ونسمة ) كان حسن الزرقوني يصنّف " ت 7 " دائما في المرتبة الأولى في نسب المشاهدة  " لغايات إشهارية " والحال أن العاملين فيها أنفسهم كانوا لا يشاهدون برامجها  باستثناء من تجبره ظروف العمل على المشاهدة . وكان لذلك التصنيف تأثير كبير على المستثمرين الذي أغدقوا على التلفزة ما لم تكن تستحقّ  باعتبار أنها لم تكن الأفضل ولا الأجدر بالإشهار . وهذه اللعبة تتواصل إلى اليوم .  وما زالت شركات سبر الآراء تصنّف القنوات التلفزية بحسب ما تدفع وليس بحسب ما تنتج أو جدارتها بأن تكون في مراتب الصدارة . ولا شكّ أن هذه التصنيفات التي لا تقوم على أي معطى علمي تؤثّر مباشرة على المستشهرين الذين  لا يعنيهم في العادة أي شيء إلا أن يشاهد منتوجهم  أكبر عدد ممكن من المشاهدين .
تخمة هنا ... وفقر هناك
ولعلّكم تلاحظون أيضا أن الومضات الاشهارية  تكاد تكون بلا عدد على قناتي الحوار التونسي والتاسعة  بينما لا نكاد نجد لها أثرا في بقية القنوات بما فيها الوطنية  الأولى  بتاريخها وإمكاناتها  البشرية والتقنية وكل ما يؤهّلها مبدئيا كي تكون  صاحبة نصيب الأسد من طبق الإشهار . ويعود هذا الأمر " المقلوب " إلى عدة أسباب لا يمكن لأي كان أن ينكرها وهي :
-  إن سامي الفهري والعديد  من العاملين معه يتحرّكون في كافة الاتجاهات ويتّصلون بالمستشهرين ويستغلون العلاقات الخاصة السابقة واللاحقة  للحصول على عقود إشهار تدرّ على القناة أموالا كثيرة ... ونفس الأمر بالنسبة إلى قناة  التاسعة  تقريبا .
-  إن سامي الفهري ورغم كل ما يلام عليه وما يقال عن قضيته الشهيرة مع التلفزة الوطنية التي ما زالت تطالب بتنفيذ حكم بالمليارات ضده ورغم الشكوك التي تحوم حوله وحول أدوار مشبوهة قد يكون موكولا إليه أن يلعبها في ما يتعلّق  بتدمير ما تبقّى من قيم  في هذا المجتمع فقد تمكّن بشيء من الذكاء من استغلال نقاط ضعف القناة الوطنية وبقية القنوات الأخرى  ليسيطر على المشاهدين من خلال برامج أغلبها تافه وقام بتوزيعها على كافة أيام الأسبوع  منافسا بها كافة البرامج الأخرى وللأسف الشديد فإن أغلب هذه البرامج تفوّق على الآخرين الذين اكتفوا بالنقد والفرجة ولم يبذلوا أي جهد من أجل أن ينتجوا برامج تتفوّق على برامج سامي الفهري التافهة المدمّرة .
ولعلّ الطرف الأكثر عرضة هنا للّوم هو التلفزة  الوطنية لأنها الوحيدة القادرة على إنتاج برامج أفضل وأكبر وأقوى نظرا إلى أن لديها من الإمكانات المالية والبشرية  ما لا يتوفّر لدى كافة القنوات الأخرى مجتمعة .
-  إن العقلية السائدة في القناة  الوطنية  لم تتغيّر رغم مرور  أكثر من سبع سنوات من العتق والتحرّر من سجون المنظومة القديمة التي زرعت منطق التواكل والكسل ومنطق  " رزق البيليك " . فالكسل هو نفسه والتصرف بنمطق " رزق  البيليك " ما زال هو هو ... والتواكل ما زال ضاربا أطنابه ... وما زلنا إلى اليوم على قناعة بأن 10 في المائة من العاملين في هذه المؤسسة على أقصى تقدير  يعملون بينما يغط البقية في نوم عميق طوال السنة ... ومن حقّهم ذلك طالما أن الإدارة  تجازيهم وترصد لهم مكافآت ومنح إنتاج ومنح " سوايع  زايدة " يقضّونها في المقاهي والشوارع والديار...
-  إن هذه العقليّة التعيسة أدّت إلى أوضاع تعيسة أو أكثر تعاسة .  هنا أريد أن أسأل : ما هي الأعمال التي أنتجتها المؤسسة خلال السنوات العشر الأخيرة على سبيل المثال  بالرغم من وجود وكالة وطنية مخصّصة في الانتاج السمعي البصري ؟. إن الاجابة ودون مغالطات أننا أنتجنا " حارة " من البرامج تعدّ على أصابع اليد الواحدة . وأتعس من هذا فقد قم " قتل " هذه الوكالة وتحجيم دورها إلى درجة أنها لم تعد تنتج شيئا تقريبا  وللأسف الشديد فإن أبناء الدار هم الذين قبروها بتعاون مع  البعض مّن بيدهم سلطة القرار لفائدة شركات إنتاج يدرك أصحابها جيّدا منطق " كول ووكّل " ويؤمنون به جيّدا . وقد لاحظنا واستغربنا خلال السنوات الماضية من تخلّي الوكالة عن دورها ومن " تكليف " شركات إنتاج خاصة بإنتاج برامج لفائدة التلفزة التونسية والحال أن إنتاجها لا يتطّلب غير شخصين أو ثلاثة وربع مخرج من أبناء الدار لا غير ...
-  إن الكسل وقلة العمل والانتاج في التلفزة الوطنية يقابلهما حماس كبير وعمل غزير من نفس هؤلاء الكسالى لكن لفائدة أطراف أخرى أهمها الحوار التونسي والتاسعة  وليس لفائدة القناة التي بها يعملون . ولعلّ الغريب هنا هو تلك السلبية في التعامل مع هذا الأمر الذي تمنعه أخلاقيات المهنة  والقانون .
-  إن الأتعس من كل هذا أن بعض العاملين في القناة صاروا منذ سنوات وسطاء في عمليات الإشهار ليس لفائدة قناتهم طبعا بل لفائدة قنوات أخرى أوّلها الحوار والتاسعة  اللتين تدفعان بسخاء لكافة الوسطاء .  وطبعا لا يخفى على أحد أن هذا العمل يمكن أن يرتقي إلى  مرتبة الجريمة ... لكن لا أحد عوقب منذ عشرات السنين بالرغم من أن العملية تتكرّر ...كل يوم
نتيجة حتميّة  لكن إلى متى ؟
وبكل تأكيد فإن كافة هذه الأسباب التي تحدثنا عنها ستؤدي إلى نتيجة واحدة وهي التي تعيش عليها مؤسسة التلفزة الوطنية اليوم من حالة الركود في الانتاج وبالتالي حالة الاستقالة وترك المجال فسيحا أمام المنافسين ليحتلّوا أماكنهم أمام التراجع الرهيب للقناة  الوحيدة القادرة  التي تملك الامكانات  القادرة على محاربة الرداءة  باعتبار أنها " قناة الشعب " والمدافع عن قيم هذا المجتمع وهذا الشعب ... لكن يبدو أن هذا الدور بات مشكوكا في أمره  باعتبار أن العديد من المؤشرات باتت  لا تنبئ بأي خير ... فلننتظر...
جمال المالكي 
 

التعليقات

علِّق