للتاريخ : هكذا خصّصت " أخبار الجمهورية " 6 صفحات كاملة عن بورقيبة يوم وفاته فأين كان " البورقيبيّون "؟

للتاريخ :  هكذا خصّصت " أخبار الجمهورية " 6 صفحات كاملة عن بورقيبة  يوم وفاته  فأين كان " البورقيبيّون "؟

في مثل هذا اليوم ( 6 أفريل ) من سنة 2000 التحق الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة بالرفيق الأعلى بعد " سنوات من المنفى " في المنستير بأمر من " صانع الانقلاب "  آنذاك الرئيس زين العابدين بن علي.

وبهذه المناسبة أردت أن أكتب بعض الحقائق لعلّها تفيد التونسيين وتوضّح الرؤية في أذهانهم خاصة في ما يتعلّق ببعض " البورقيبيين " المزيّفين الذي لم يتجرّا أي واحد منهم  آنذاك حتى على الترحّم على بورقيبة علنا لأنهم ببساطة " قلبوا الفيستة " وأصبحوا قلبا وقالبا مع بن علي.

كانت صحيفة " أخبار الجمهورية " الأسبوعية تصدر سنة 2000 كل يوم جمعة . وكانت اللمسات الأخيرة تتم في الليلة الفاصلة بين الخميس والجمعة ( Bouclage  بالكلمة التي يفهمها الصحافيون ). في تلك الليلة ( 5 أفريل 2000 ) كان بورقيبة يرقد في المستشفى العسكري بالعاصمة  منذ أيام وحالته الصحية لم تكن على ما يرام . وعندما كنّا بصدد القيام باللمسات الأخيرة جاءنا خبر يفيد بأن " صحّة الزعيم بورقيبة في تحسّن " ... وكتبنا الخبر القصير ( بضع كلمات لا غير ) وأدرجناه في الصفحة الثانية التي تحتوي عادة مجموعة من الأخبار القصيرة .

انتهينا من عملنا وعدنا إلى ديارنا في ساعة متأخرة من الليل وقد أرسلنا كل ما يلزم إلى مطبعة " الساجاب " حيث كانت الجريدة تطبع كل أسبوع. وبطبيعة الحال صدرت الجريدة من الغد ( 6 أفريل 2000 ) وفيها الخبر المذكور ( تحسّن صحّة الزعيم ) . ثم جاء الخبر فجأة يفيد بوفاة الزعيم صباح ذلك اليوم بالتحديد. كان الأمر صعبا لأن الناس لن يتقبّلوا صدور خبر تحسّن حالته الصحية في نفس اليوم الذي مات فيه ... لأنهم ببساطة لا يعرفون ظروف العمل ومتى وكيف تتم طباعة الجريدة وغير ذلك من التفاصيل.

ولإنقاذ الموقف لم تكن أمامنا خيارات عديدة بعد أن اقترح البعض بأن نترك الأمور كما هي وأن " نعوّل " على سرعة النسيان لدى القارئ التونسي الذي سيتفهّم الوضع بعد ذلك ويغفر لنا ذلك الخطأ الذي لم يكن في الحقيقة خطأ بقدر ما كان مجرّد صدفة " متعبة " لا غير.

دعي الجميع صبيحة 6 أفريل 2000 إلى اجتماع عاجل وتقرّر أن يعاد طبع الجريدة مع تحديث مضمونها من خلال سحب الخبر الأول وتعويضه بمقال أو أكثر يعطي وفاة الزعيم شيئا مما تستحق. وعلى الفور تجنّد الجميع فتم إعداد 6 صفحات كاملة تتحدث كلّها عن الزعيم بورقيبة وعن أهم محطاته السياسية التي طبعت تاريخ تونس الحديث بقطع النظر عن موقف أي منّا من بورقيبة في حد ذاته .

أما الصفحة الأولى التي كانت تحتوي على مجموعة من العناوين  والصور المختلفة فقد أصبحت لا تحتوي إلى على صورة كبيرة ( تملأ الصفحة طولا وعرضا ) وبضعة عناوين التي تتعلّق ببورقيبة . وفي الأثناء تم الاتصال بكافة الموزّعين في الجهات من أجل سحب الطبعة الأولى من كافة نقاط البيع في البلاد.

وبطبيعة الحال لم يعجب الأمر نظام بن علي ولا بن علي نفسه ولا أعضاده أو مستشاروه الذين أمضى أغلبهم أعمارهم في التصفيق لبورقيبة والهتاف بحياته . ولم تمرّ العملية دون " عقاب ". وكان بن علي وأركان نظامه الفاعلين يختارون " نوع العقاب " حسب نوع " المغضوب عليهم . وبما أن أخبار الجمهورية كانت آنذاك من هؤلاء المغضوب عليهم لأنها اختارت منذ بدايتها أن تنحاز إلى " عموم الشعب " وأن تكتب ما كان مستعصيا على بقية الصحف ( باستثناء صحف المعارضة وجريدة الشعب الناطقة باسم اتحاد الشغل ). وكان العقاب من جنس العمل مثلما يقولون . فبعد سنوات من " نصف الحرمان " من الإشهار العمومي ( كانوا يمنّون علينا ببعض المساحات الإشهارية العمومية التي لا تغني ولا تسمن من جوع في حين كانت حنفيّة أموال الإشهار العمومي مفتوحة على مصراعيها أمام صحف المديح والموالاة . وبعد تلك " العملة " التي أغضبت السلطة تقرّر حرمان " أخبار الجمهورية " نهائيا من أي سنتيمتر مربّع واحد من الإشهار العمومي.

لقد أردت التذكير بهذه الحكاية لعدّة أسباب لعلّ أهمّها :

- أننا قمنا آنذاك بما يمليه علينا الواجب وأخلاقيات المهنة بالرغم من أن البعض منّا ( وأنا منهم ) لم نكن من " أنصار " بورقيبة لكننا وضعنا الجوانب الشخصية جانبا وتصرّفنا كمحترفين .

- لقد كان مجرّد الحديث عن بورقيبة في ذلك الوقت " جريمة " تستحق  العقاب الشديد فما بالكم أن نخصص 6 صفحات لبورقيبة إضافة إلى الصفحة الأولى كاملة . وبكل تأكيد لم يكن أي واحد ممّن يدّعون اليوم أنهم " بورقيبيين " يجرؤ حتى على إعلان أسفه أو حزنه على موت الزعيم.

- كنّا نعلم مسبقا أن ما فعلناه لن يرضي  النظام . لكننا في المقابل كنّا نعرف الثمن الذي سندفع. وقد دفعنا بالفعل مئات المرات ... وما زال بعضنا يدفع إلى اليوم ... ولا فائدة في مزيد من التوضيح.

* ملاحظة : إن كلمة " للتاريخ " التي وردت في مطلع مقالي ليست من قبيل الصدفة . فهي عنوان برنامج يقدمه برهان بسيّس على قناة التاسعة . ولم أختر هذه الكلمة حبّا في هذا الشخص أو تأثّرا ببرنامجه بل لأذكّر الناس ( وخاصة من عايشوا تلك الفترة ) بأن هذه الكلمة هي في الأصل عنوان ركن قار كنت أكتبه ( افتتاحية ) في جريدة أخبار الجمهورية وأعبّر من خلاله عن آراء سياسية  ( محلية ودولية ) واجتماعية وغير ذلك من المواضيع ... ويعرف الكثير من الزملاء أن ذلك الركن ( وغيره أيضا ) كان يحمل الكثير من الجرأة وأنه " فاق الحدود " في كثير من الأحيان وجلب لنا الكثير من المشاكل مع السلطة.

وحتى أختم أقول إني وددت لو أنني أرفقت هذا المقال بصورة من غلاف الجريدة الصادرة يوم 6 أفريل 2000 . لكن للأسف فإن ذلك غير ممكن لأنه غير متوفّر عندي . وعلى كل حال فهو محفوظ في ذاكرة الأرشيف الوطني . ويمكن لكلّ من يريد منكم أن يطلّع عليه في مكاتب هذه المؤسسة الوطنية التي ما زالت لحسن الحظّ تحفظ الذاكرة الوطنية.

جمال المالكي

التعليقات

علِّق