في اعتصام أمام سفارة سويسرا : هذا التونسي مصرّ على حقّ عمره 15 عاما والنيابة العمومية تأمر بعدم التعرّض إليه
قد يكون هذا المواطن التونسي وهو أحمد مراد النفاتي فاق " أيّوب " في صبره ... قد يكون فاق " سيزيف " في إصراره لكنّه في كافة الحالات يؤمن بأن بداخله " هاتف " يأمره بأن لا يرمي المنديل حتى لو طالت قصّته 100 عام أخرى .
وحتّى لا أطيل عليكم أقول إن أحمد مراد النفاتي كان يعمل لدى السفارة السويسرية بتونس في خطّة سائق . وبما أنه يجيد اللغة الفرنسية فقد كان مسؤولو السفارة يطلبون منه أحيانا ترجمة بعض المقالات الصحفية التي تهم سويسرا أو تهمّ السفارة وكان يقوم بذلك عن طواعية ودون خلفيّات .
" خائن أمانة " لكن مثقّف و " متربّي " في نفس الوقت ؟
ذات مرّة طلب منه أن يترجم مقالا يخصّ الأستاذ أحمد نجيب الشابي ( المعارض آنذاك ) فرفض لأنه أحسّ بأن الأمر يتجاوز مجرّد الترجمة وحب الإطلاع إلى أشياء أخرى لا يقبل أن يفعلها . ويبدو أن رفضه ذاك كان سببا في اتخاذ قرار بالإستغناء عن خدماته وهذا ما حصل بالفعل . لكن الغريب حسب ما يؤكّده النفاتي ( ولم تنفه السفارة لا في عهد بن علي ولا بعده ) أن الطرد تمّ بناء على تهمة " خيانة مؤتمن " إذ ادّعت السفارة أنها كلّفت مراد النفاتي ببعض الشراءات لكنّه لم يصرّح بالمبالغ الحقيقية للعمليّة . ولعلّ الأغرب من القرار ذاته أن السفارة وبعد أن قررت الإستغناء عن خدماته سلّمته مكتوبا تشكره فيه على المدّة التي قضاها في الخدمة وتعترف له فيه بأنه شخص لطيف ومثقّف ومهذّب وتتمنّى له أن يجد حظّا أوفر في مهنة أخرى .
" حقّي برقبتي "
وبالرغم من أن المدّة التي عمل فيها النفاتي بالسفارة ليست طويلة فقد رأى أن طريقة طرده إهانة لا يمكن السكوت عنها . لذلك قرّر أن يبدأ معركة لا يعرف متى تنتهي ولم تكن له فيها أسلحة كثيرة ما عدا المتاح في ذلك الزمن . وبالرغم من ذلك أحسّت السفارة بالخطأ الجسيم الذي وقعت فيه لكنها لم تسع إلى إصلاحه بل عرضت على المعني بالأمر تسوية رأى أنها لا تسمن ولا تغني من جوع فرفضها . ومنذ ذلك الوقت ظل النفاتي يجوب العاصمة وضواحيها طولا وعرضا يحاول أن يعرف الناس والجهات المعنيّة قضيّته . لكن للأسف الشديد لم يسمعه إلا النزر القليل . وقد وجد صدّا كبيرا من أغلب وسائال الإعلام التي استجار بها فخذلته إما خوفا من السلطة وإما خوفا من الخوف نفسه .
411 يوما بين اعتصام وإضراب عن الطعام
ورغم كل ما حدث والظروف في تلك الفترة فقد سجّل هذا التونسي حضوره بقوّة ودفع من حياته حوالي 411 يوما أو أكثر بين اعتصامات أمام السفارة السويسرية وبين إضرابات عن الطعام أيضا أمام السفارة . وقد أدّى ذلك إل تعريض حياته للخطر في أكثر من مرّة وحمل إلى المستشفى أكثر من مرة أيضا . ومن فرط الإرتباك الذي وجدت نفسها فيه تعمّد قنصل السفارة في تلك الفترة الإعتداء بالعنف على أحمد مراد النفاتي ( وكل شيء موثّق لدى الأمن ولدى القضاء ولا تستطيع السفارة إنكار أي حرف من هذا ) . وذات مرة أتى صخر الماطري يزور السفارة ويبدو أنه تلقّى وعدا بمنحه الإقامة الدائمة بسويسرا بشرط أن يخلّصهم من " قلق " مراد النفاتي ( وهذا ما كان يسعى إليه آنذاك وكانت سويسرا ترفض دائما ) وعند مغادرة السفارة قام بمصادرة الشعارات التي كتبها النفاتي للتحسيس بقضيته وبالظلم الذي تعرّض ... حملها في الصندوق الخلفي لسيارته وغادر المكان ... لكنه لم ينل الإقامة بينما أعاد النفاتي كتابة شعارات جديدة أقلقت السويسريين وجعلت البعض منهم يلعن اليوم الذي جاء فيه إلى هذه الدنيا .
اليوم أتعس من البارحة
وجاءت " الثورة " وتصوّر هذا المواطن أن فرصه في تبليغ صوته وربّما في نيل حقّه كبرت بما أن الإعلام " هرب " من عقاله وفكّت عقد لسانه . لكنه اكتشف سريعا أنه يحلم وأن اليوم أتعس بكثير من البارحة . فقد راسل وكتب وذهب وزار كافة المسؤولين التونسيين الذين تتصوّرونهم في خيالاتكم وحتى الذين لا تتصوّرونهم ... رئاسة الجمهورية ... وزارة الخارجية ... وزارة الداخلية ... وزارة العدل هيئة الدفاع عن حقوق الإنسان ... هيئة المحامين ... أغلب القنوات التلفزية والإذاعية وأغلب الجرائد والمجلات . وللأسف الشديد لم يجد عند هؤلاء إلا التجاهل والمماطلة واللامبالاة ما عدا النزر القليل ممّن ساندوه حتّى بصفة معنوية لا غير . وقد بات الرجل اليوم مقتنعا بأن المصالح أهمّ بكثير لدى أغلب من تعامل معهم حتى وهم يدركون أن كرامة مواطن تونسي في الميزان ... حتّى وهم يعلمون أن دولة سويسرا أجابت ذات مرّة بالحرف الواحد : " نحن لا نجيب أشخاصا من العالم الثالث " أو في هذا المعنى على الأقل .
بأمر من النيابة العمومية
وهاهو أحمد مراد النفاتي يعيد الكرّة ويستأنف الإعتصام أمام السفارة السويسرية مطالبا بحقّه كاملا دون قيد أو شرط ويتمثّل حقّه في رسالة اعتذار رسميّة وردّ اعتبار من الدولة السويسرية ممثلة في سفار تها نظرا لما لحقه من ضرر معنوي جرّاء التهمة التي ألصقت به باطلا ثم التعويض المالي الذي يرى أنه أرفع بكثير من المبلغ الذي عرضته عليه السفارة كتسوية للأمر في عهد بن علي مثلما قلت . وقبل أن يستأنف الإعتصام قام بإعلام كافة الجهات المعنيّة ومنها بالخصوص وزارة الداخلية ووزارة الخارجية ووزارة العدل ورئاسة الجمهورية . أما الداخليّة فقد حملته يوم 1 أوت إلى منطقة الأمن حيث طلب منه أن يتراجع عمّا شرع فيه بكل ما يعني ذلك من متاعب تعرّض لها حسب قوله . وأما الخارجية فقد أغلق وزيرها ومسؤولوها كافة المنافذ أمامه إلا منفذا واحدا وهو الذي طلبوا من خلاله وزارة الداخلية منعه من تنفيذ الإعتصام " ومصادرة شعاراته خوفا على سمعة تونس وعلى مشاعر السويسريين " ... وأما رئاسة الجمهورية فلا حياة لمن تنادي رغم ما تلقّاه من وعود من بعض المستشارين ... ولم تبق سوى جهة وحيدة وهي وزارة العدل ممثّلة في النيابة العمومية التي لحسن حظّه أصدرت أمرا بأن لا يتعرّض له أحد طالما أنه لا يؤذي أحدا ولا يلحق الضرر لا بالأمن العام ولا بالأمن الخاص ولا حتّى بالأرض التي يمضي الأيام والليالي فوقها . وقد أكّد لنا أمس أنه لم يتلقّ أي إزعاج من أيّ كان منذ أن قررت النيابة العمومية أن يمارس حقّه في الإحتجاج السلمي للمطالبة بحقّ أصبح اليوم " شابّا " يبلغ من العمر حوالي عاما ... وما زال يكبر يوما بعد يوم .
كان هذا إذن ملخّص لقصّة هذا المواطن التونسي وقد أجهدت نفسي كثيرا في اختصار ما فيها من تفاصيل تكفي لملء كتب ومجلّدات خاصّة أنني أعرف القصة فصلا فصلا وحرفا حرفا وكنت واحدا من الصحافيين القلائل ( بل الوحيد في ذلك الوقت ) الذين كتبوا عنها ما أمكن في ذلك الزمن الذي كان فيه " أبطال " اليوم يلتفتون يمنة ويسرة وإلى الخلف والأمام قبل أن يفكّروا في كتابة حرف واحد ضدّ " شاوش " في إدارة . وبكلّ تأكيد سوف نعود مع المزيد من التفاصيل التي لا يمكن لأي مخلوق أن ينفيها لأن كل شيء موثّق مثلما قلت ... فإلى اللقاء .
جمال المالكي
التعليقات
علِّق