طبال الباشا والرذيلة الفنية

طبال الباشا والرذيلة الفنية

بقلم نوفل بن عيسى

"يبدو أن الوقت قد حان لتصحيح مسار الممارسة الفنية في تونس.
الانطلاقة تكون بالتفرقة بين صفة فنان وصفة الممارس لنشاط فني ما، فنحن نعيش لخبطة في المفاهيم كانت سببا في الرذيلة الفنية التي نعيشها اليوم."
هذا ما دونه مكرم الانصاري على صفحات التواصل الاجتماعي. وقد عرفت مكرم حين كان طالبا من طلبتي والتقيته موسيقيا محترفا وباحثا في مجال العلوم الموسيقى والان مديرا لبيت المالوف بمدينة الثقافة بتونس.
ولمكرم افكار ومبادئ يفصح عنها ويلتزم بها ويتحمل تبعاتها وهذا مذ عرفته وهكذا كنت قبل ان "استقيل" إذ لمست أنه ما عدى بعض الاستثناءات فمستوى حكام هذا البلد ومسؤوليه الفكري والحضاري لا يخول لهم الوعي باهمية الفنون والثقافة في إدراك الحداثة والبناء الحضاري للمجتمع.
ودليل ذلك أن بعد 65 سنة استقلال مازالت قوانين التشغيل لا تطبق على المهن الموسيقية وحقوق التأليف مهضومة فضلا على كون الأطر القانونية للميدان مختلة رغم التطور الملموس في مستوى الموسيقيين في تونس إبداعا وتنفيذا وفي مستوى أهل الصناعة المعرفي والثقافي منذ تأسست المعاهد العليا وكثر خريجوها وهذا معناه أن الموسيقي والموسيقى قد تطورا في حين مازالت الإدارة الرسمية للشؤون الثقافية بالية تشكو الرتابة.
وهذا ليس بالغريب في بلد يصرح فيه رئيس حكومته متحدثا عن الفنانين:" أحنا في حاجة ليهم باش يفرهدونا" ولهذا السبب فلن يجد في وطننا ضالته من الموسيقيين إلا من كان "طبال الباشا" وسيدوم هذا الحالل ويتواصل وسيظل كذلك طالما "الطبالة" يتحكمون في الميدان والمجال وآليات الابداع والبروز والانتاج والتوزيع والترويج.

- ماذا تأمل من وطن تشغل فيه وزارة الاشراف الموسيقيين ولا تدفع ما عليها الى صندوق الضمان الاجتماعي وغير ذلك مما يتوجب على المشغلين كما ينص على ذلك قانون الشغل رغم أن الفنان بدفع ما عليه من آداءات وضرائب كغيره من المواطنين؟
- ماذا تأمل من وطن تسن فيها الوزارة قوانين ولا تطبقها ولا تلتزم بها ومنها قوانين حقوق التأليف؟
- ماذا تأمل من وطن تصاغ فيها عقود الشغل في المجال الفني لتأمين حقوق المشغل على حساب المشتغل؟
- ماذا تأمل من وطن يلتزم فيه الفنان بما عليه ولا يتمتع بحقوقه؟
- ماذا تأمل من وطن لا يتحصل فيه الفنان على مستحقاته إلا بعد عناء وشدة التعب واشهر وحتى أعوام من الانتظار ويمضى أكثر وقت في الركض وراء حقوقه الادبية والمالية مما يمضيه في التفرغ لعمله الفني.
- ماذا تأمل من وطن يشتغل فيه الموسيقي في تظاهرات دولية ووطنية ومهرجانات ثم "يخلص تحت حيط" وحتى بعض المشاركات تكون باعتبار الجهويات والصداقة والزمالات والرشوة وحتى الممارسات المنافية للأخلاق الحميدة والشرف؟
- ماذا نأمل من وطن لا يجد فيه الفنان ما يرتزق منه في كبره لأن حقوقه في التقاعد والحماية الاجتماعية حبر على ورق وهو ما يجعل المحضوضين منهم  يستثمرون اموالهم في التجارة أو يمتهنون مهنا مضمونة الدخل ليؤمنوا الحق في التداوي والتقاعد عندما يدركهم خريف العمر وهكذا يحفظون كرامتهم وسلامتهم.
- ماذا تأمل من وطن يكون فيه مصير الفنان الذي يهب حياته للفن الفاقة والتسول وشفقة وزارة الاشراف وصدقة بعض اهل الصناعة بعدما كان "أشهر من نار على علم" على غرار الهادئ قلال وعبد الحميد ساسي وفاطمة بوساحة وعبد المجيد الاكحل وحين وفاتهم "يعلقولهم عرجون"!
- ماذا تأمل من وطن ترصد فيه وزارة الاشراف ميزانيات ضحلة لمهرجانات تسميها ثقافية تخصص منها نسبة غير قليلة "للاداريين الثقافيين" والاطارات المحلية الامنية
وبالتالي تضطرها الى برمجة عروض "همجية" لتجلب الجمهور وتتفادى العجز وتصبح بالضرورة تجارية لأنه "إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع".
- ماذا نأمل من وطن تعتمد فيه وزارة الثقافة سياسة تنشيطية وترفيهية أفلست المهرجانات ثقافيا وكذلك البلاد والعباد. وللتاريخ "فصاحب الفضل في هذا الانجاز العظيم" هو ذاك الوزير عبد الباقي الهرماسي الذي مر بالوزارة مرور "ريح صرصر" ليترك القطاع في مهب الريح حتى صارت وزارة الثقافة منذ عهده "تميح مع الارياح" وشأنها شأن "الكورة بين الذكور" !
- كيف يكون الوطن وطنا حين تستولى عليه الانظمة ومن لف لفها من "أصحاب الذوات"، لا اعتبار فيه للمواطن ولا للثقافة والتراث والابداع ويكون فيه الفنان مرتزقا لا غير، إلا من رحم ربك.

ونتيجة لما سبق ذكره فإن أغلب الموسيقيين المتميزين هاجروا ومن بقي منهم يبحث عن هجرة ولن يغير هذا الوضع نقابات ولا اتحادات ولا "قانون الفنان" إذ ليس في هذا الوطن مكان إلا "للرذيلة الفنية " ومن يجوب أروقة الوزارة والادارات والمؤسسات الثقافية وله موهبة في نسج "العلاقات المثمرة" و"طبالة الباشا" و"جماعة تحت الطاولة" و"ممارسي النشاط الموسيقي" الذين قصدهم مكرم الانصاري في تدوينته  مع حفظ مقامات بعض الاستثناءات.

التعليقات

علِّق