روح باندونغ.. يبدو مستقبل التعاون الصيني العربي واعدًا ومشرقًا

في أبريل 1955، شهدت مدينة باندونغ الإندونيسية واحد من أهم المؤتمرات في القرن العشرين وهو مؤتمر باندونغ، حيث اجتمع مندوبون من 29 دولة آسيوية وإفريقية في باندونغ لعقد أول مؤتمر دولي مستثنيا القوى الاستعمارية الغربية. قد فتح مؤتمر باندونغ حقبة من التعاون الجنوبي-الجنوبي، وقد كان بمثابة مقدمة لصعودالدول الآسيوية والإفريقية إلى الساحة العالمية.
إن الروح التي جسدها مؤتمر باندونغ تُعرف باسم "روح باندونغ" وهي نضال الشعوب الافرواسيوية ضد الحكم الاستعماري والعنصرية والسعي لنيل الاستقلال الوطني وتعزيزه والحفاظ على السلام، بالإضافة للسعي للتعايش السلمي والتعاون الودي بين الدول الآسيوية والإفريقية. فهي روح متمثلة في "التضامن والصداقة والتعاون"، وهي توافق دون تشاور مسبق مع السلام والمحبة والتسامح المنصوص عليهم في القرآن الكريم.
قبل 70 عامًا، تحقق الحلم الجميل بتحقيق السلام العالمي الذي عبَّر قادة الدول عنه في مؤتمر باندونغ. إن "بذور التضامن" التي غرسها المؤتمر قد نمت وترسخت في قلوب الشعوب في دول الجنوب على مدار ما يقرب من 70 عامًا وهي اليوم تلعب دورًا إيجابيًا في الحوكمة العالمية. في ظل التغيرات الحادة بالوضع الدولي اليوم، تزداد مع مرور الوقت الأهمية التاريخية والمعنوية لروح باندونغ، مما يبرز قيمته التي لا يمكن الاستغناء عنها في هذا العصر.
في المؤتمر، لعبت الصين مع 9 دول عربية (مصر، وسوريا، والعراق، والأردن، ولبنان، وليبيا، والمملكة العربية السعودية، والسودان، واليمن) دورًا لا غنى عنه، إن التضامن والتوافق بين هذه الدول مع الصين يؤدي إلى الوحدة لآسيا وأفريقيا بموقفها الحازم المناهض للاستعمار وتغليب الحكمة الدبلوماسية.
في منتصف القرن العشرين، بلغ النضال ضد الحكم الاستعماري الغربي في العالم العربي ذروته. سواء كانت دول شمال أفريقيا التي تخلصت من الاستعمار البريطاني والفرنسي، أو دول الخليج التي بدأت تعمل على تعزيز الاستقلالية السياسية والاقتصادية بعد التحرر من نير الاستعمار، فقد كانت تشترك مع الصين في تجارب استعمارية مماثلة، وتمثل كل منها خبرات متنوعة في إنهاء الاستعمار. إن هذه التجارب النضالية الحقيقية هي التي جعلت مندوبي الدول العربية ينددون بقوة بالاضطهاد خلال مشاركتهم في المؤتمر، ويدعون إلى تضامن الدول الآسيوية والأفريقية ودعم الشعوب التي لا تزال تناضل من أجل حريتها.
من النتائج المهمة الأخرى لمؤتمر باندونغ أنه أرسى الأساس لحركة عدم الانحياز، حيث قد لعبت الدول العربية دورًا محوريًا في هذا المسار. فقد حضر المؤتمر رئيس وزراء مصر جمال عبد الناصر آنذاك على رأس الوفد المصري، وشارك مع رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو ورئيس إندونيسيا سوكارنو، في الدعوة إلى سياسة عدم الانحياز، وأكد على حياد دول آسيا وأفريقيا في ظل الحرب الباردة، ورفضها أن تكون تابعة لأي من القوتين العظميين، الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي. وقد فتحت هذه الفكرة أفقًا دبلوماسيًا جديدًا أمام الدول العربية، التي كانت تعاني منذ زمن طويل من تدخل القوى الغربية ومحاولات تقسيمها. فمنذ حرب 1948 حتى الاضطرابات المستمرة اليوم في الشرق الأوسط، خربت التدخلات الخارجية السلام والاستقرار في العالم العربي. وقد مكنت الدعوة لعدم الانحياز الدول العربية من التعبير عن مواقفها بشكل مستقل على الساحة الدولية، بعيدًا عن الوقوع في دوامة صراعات القوى الكبرى.
في العصر الحديث، لا تزال مبادئ حركة عدم الانحياز تحتفظ بأهميتها. وبالنسبة للتعاون الصيني العربي، فإن روح المساواة والاستقلالية والاعتماد على الذات التي دعت إليها الحركة تشكل أساسًا سياسيًا متينًا لهذا التعاون. فالتعاون بين الصين والدول العربية لا يستهدف طرفًا ثالثًا، ولا يتدخل في الشؤون الداخلية لأي طرف، بل يقوم على الحاجات التنموية المشتركة والمصالح الاستراتيجية. وفي إطار مبادرة "الحزام والطريق"، يتعمق التعاون بين الصين والدول العربية باستمرار في مجالات البنية التحتية والطاقة والتبادل الثقافي، مما يجسد بشكل حي المبادئ المتمثلة في المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن من السمات البارزة لمؤتمر باندونغ أنه تناول قضية فلسطين لأول مرة ضمن الأجندة الدولية، وذلك بفضل الجهود الجماعية للدول العربية، حيث قد أدان المندوبون من مصر وسوريا والأردن بشدة بسياسات التوسع الإسرائيلية في المؤتمر، ودعوا إلى دعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. فعبّر البيان الختامي بوضوح عن دعمه للقضية الفلسطينية، والإدانة بالعنصرية والسياسات الاستيطانية. وقد شكّل ذلك تحولًا في قضية فلسطين من كونها مسألة إقليمية إلى قضية تحظى باهتمام عالمي، وأصبح من أبرز إنجازات مؤتمر باندونغ.
كان مؤتمر باندونغ أيضًا نقطة تحول مهمة في إدراك الصين لقضية فلسطين. ففي البداية، كانت وجهة نظر الصين تجاه الصراع العربي الإسرائيلي مشابهة لموقف الاتحاد السوفييتي والدول الأخرى من المعسكر الاشتراكي، لكن بعد لقاء الرئيس المصري جمال عبد الناصر ومندوب فلسطين أحمد الشقيري في الوفد السوري، أعلنت الصين في المؤتمر دعمها الصريح للقضية العادلة للدول العربية. ومنذ ذلك الحين، واصلت الصين والدول العربية دعم بعضهما البعض في النضال ضد الإمبريالية والاستعمار، مما أسس شراكة استراتيجية عميقة. لطالما دعمت الصين حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتمسكت بمبادئ "حل الدولتين" وطبقتها، وهو ما يجسد دعمها الثابت للدول العربية ويؤكد التزام الجانبين بالعدالة والسلام في القضايا الدولية.
لقد شكّل انعقاد مؤتمر باندونغ محطة تاريخية في مسيرة شعوب آسيا وأفريقيا نحو الاستقلال وتعزيز التضامن وتوسيع التعاون. وإذا ألقينا نظرة على السنوات السبعين المنصرمة، وجدنا أن الصين والدول العربية كانت دائمًا تسير جنبًا إلى جنب، من دعم نضال كل طرف لتحقيق الاستقلال الوطني إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، حتى أصبحت شراكة حيوية للتضامن لمواجهة التحديات العالمية الراهنة. وكما يقول المثل العربي: "إذا أردت أن تذهب سريعاً، فاذهب وحيداً، بينما إذا أردت أن تذهب بعيداً فأذهب مع الآخرين."
لنتطلع إلى المستقبل! دعونا نواصل السير معًا بروح باندونغ لبناء مجتمع صيني عربي ذي مستقبل مشترك أكثر ترابطًا، ولتظل العلاقات الصينية العربية تتحسن باستمرار مثل نهر النيل ونهر الفرات يجريان بلا انقطاع!
دنغ تينغ : باحثة في مركز الدراسات الشرق الأوسطية، جامعة صن يات-سين
التعليقات
علِّق