تأخّر حصول تونس على اللقاح : هذا ما جناه علينا " هواة السياسة " والعشوائية وتجاهل نصائح الخبراء التونسيين

تأخّر حصول تونس على اللقاح : هذا ما جناه علينا " هواة السياسة "  والعشوائية وتجاهل نصائح الخبراء التونسيين

منذ انتشار وباء  كورونا في السنة الفارطة تحرك العديد من علماء الأدوية و الباحثين السريريين التونسيين في الداخل وفي الخارج واقترحوا إحداث لجنة للتقصي والأبحاث السريرية تقوم بالمتابعة لكل ما يحدث في العالم وتمد وزارة الصحة بالتقارير الآنية. وأكد هؤلاء  ضرورة التموقع منذ أفريل 2020 حتى يتسنى لبلادنا الحصول على الأولوية في التزود باللقاح حتى مجانا..

وقد  نبّه هؤلاء الخبراء إلى تحذيرات منظمة الصحة الدولية   من موجة ثانية تكون أكثر حدة على بلدان إفريقيا التي لم تشهد في الواقع موجة أولى قوية . لكن بالرغم من الترحيب بالفكرة لم يقع العمل بها في عهد   الوزير عبد اللطيف المكي الذي تمت إقالته من قبل رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في أوج فترة الوباء لأسباب سياسية لا تهم الشعب. و لم يقع بالمرة التحضير الضروري للموجة الثانية و تواصل التزود العشوائي بالتحاليل السريعة التي لا تطابق المواصفات العالمية ولم يقع الترفيع في أسرّة الإنعاش و لم يقع مد قنوات التواصل مع المخابر العالمية ومتابعة أبحاثها و لا حتى التزود بمخزون استراتيجي من الأدوية الأكثر استعمالا للتصدي للحالات الوبائية.

ولم تستفق وزارة الصحة  التي بقيت لمدة دون ربان نتيجة تهور الفخفاخ  من سباتها العميق إلا في شهر أكتوبر 2020 حيث تم الإتصال بعديد الخبراء التونسيين المقيمين في داخل البلاد و خارجها على غرار الوزير سابقا محمد صالح بن عمار المقيم حاليا بباريس.

وقد طلب منهم مدّ يد المساعدة للوزير فوزي مهدي  من أجل وضع خطة عاجلة لاستيراد اللقاح المضاد لفيروس كورونا في أقرب الآجال.. لكن طالت المشاورات نتيجة عدم تقدير خطورة الوضع و لم يتم استدعاء هذه الخبرات لجلسة حاسمة أقيمت بوزارة الصحة إلا يوم 23 نوفمبر 2020. وقد  شهد هذا الإجتماع حضور الوزير فوزي المهدي و مدير الصحة فيصل بن صالح ومدير معهد باستور الهاشمي الوزير و الدكتور محمد الحصايري.. وحضره  كذلك بعض الخبراء عن بعد ودام أكثر من ثلاث ساعات خصصت للحديث عن استراتيجية توريد اللقاح.

و قد علمنا أن وزير الصحة تجاوب بشكل كبير مع اقتراحات الخبراء لفض مشكل تأخر تونس في التزود باللقاح خصوصا أن رئيس الدولة ورئيس الحكومة طالباه بحلول فورية. لكن يبدو أن مدير معهد باستور الهاشمي الوزير أصر على التركيز على منظومة كوفاكس وعلى التزود من مخابر معينة أنهت كل مراحل التجارب وحصلت على تراخيص التسويق. ولعل الأخطر في الموضوع هو التأكد من أن بعض من حضروا الإجتماع تبين أنهم لم يكونوا ملمّين بالتلاقيح و ليس لهم  دراية  بطرق تطويرها ولا حتى كيفية الولوج إلى المخابر للتزود بها. كما أنهم أبدوا رفض فكرة توريد لقاحات معينة (مثل  الهاشمي الوزير) متعللين  بأنّ تونس منضوية تحت منظومة كوفاكس رغم عدم الدراية بالكمية المحددة لبلادنا في هذه المنظومة وبتاريخ تسليمها.

و إثر  ذلك الإجتماع الذي أقر بضرورة الاتصال بكل المخابر و التسريع بتوريد اللقاح خصوصا مع استفحال الوباء وغضب الشعب من عجز الدولة عن حمايته  ذهب في الاعتقاد أن التحركات ستبدأ فورا. لكنها تعطلت بشكل غريب مرة أخرى حيث لم يقع الاتصال بمخابر فايزر إلا في بداية شهر جانفي الحالي أي بشكل متأخر للغاية .وتم طلب مليوني جرعة بتكلفة باهظة نظرا إلى آجال التسليم المسرعة و للجهل بأدوات مناقشة العقود والأثمان المعتمدة  علما بأن العديد من الخبراء كانوا قد حذروا خلال اجتماع شهر نوفمبر من الاقتصار على الاعتماد على لقاح فايزر لوحده نظرا إلى عدم قدرة بلادنا على توفير المتطلبات اللوجستية الضرورية لإنجاح حملة التلقيح.

و قد نصح الخبراء  بالخصوص بالتفكير في توريد لقاحي أسترا زينيكا و مودرنا. وأمام تعطل الأمور وعدم التوصل إلى اتفاق رسمي مع أي من المخابر لتوريد اللقاح تحركت رئاسة الجمهورية منذ أسبوعين وقامت مديرة الديوان نادية عكاشة ومدير الصحة العسكرية مصطفى الفرجاني باتصالات مكثفة مع عدد من علماء الأدوية والخبرات التونسية في الخارج من أجل مساعدة بلادهم على التعجيل بتوفير اللقاح الناجع. وفعلا تجاوب هؤلاء وقدموا تصوراتهم بشكل سريع لفض المشكل . ويبدو أن أغلبهم اقترح  التعجيل باستيراد اللقاح البريطاني أسترا. كما قدموا بسطة عن الطرق العصرية المعتمدة في التفاوض من أجل شراء اللقاح بسرعة وبأفضل الأثمان. و فعلا أشار الرئيس قيس سعيد إلى فكرة اعتماد لقاح أسترا خلال  اجتماعه الأخير مع وزير الصحة وأعضاء اللجنة العلمية وأعطى تعليماته بضرورة القيام بكل الاتصالات لتزويد بلادنا باللقاح الناجع في أقرب الآجال.. وكلف وزير الخارجية عثمان الجرندي بالاتصال بنظرائه في البلدان التي يتوفر فيها اللقاح من أجل تمكين التونسيين منه في أقرب وقت ممكن .  واتصل قيس سعيد بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون للنظر في إمكانية الاستفادة من كمية من اللقاحات التي اقتنتها الجزائر . وقد  وافق تبون على إهداء الشعب التونسي كمية من أولى اللقاحات التي ستصل إلى الجزائر في إطار العلاقات الأخوية التي تربط بين البلدين الشقيقين..

وجاءت هذه التحركات على كل الواجهات لتؤكد أن مسؤولينا لم يستفيقوا إلا في الأيام الفارطة. وكثر الضغط على وزير الصحة فوزي المهدي الذي وجد نفسه في وضع محرج بين رئيس الدولة و رئيس الحكومة اللذين ألزماه بنتائج عاجلة. وتعقدت الأمور على الوزير بهذا التداخل بين أصحاب القرار خصوصا أنه يعمل تحت الضغط  والخوف من إقالته المحتملة في التحوير الوزاري المتوقع  حدوثه باعتبار أنه  محسوب على قصرقرطاج. وزاد دخول العديد من السماسرة والمشبوهين في التشويش على التزود الرسمي للدولة التونسية باللقاح من خلال اتصالاتهم بالمخابر العالمية والتحدث أحيانا باسم تونس على غرار فنان الراب " كادوريم " والمدعوة حنان -ع  المقيمة بفرنسا التي اتصلت على ما يبدو بمخابر Moderna الأمريكية وطلبت شراء اللقاح لبلادنا. ثم أكدت للوزير فوزي المهدي أنها تستطيع توفير اللقاح  من هذه المخبر في أقرب الآجال. و هذا  ما جعله يمكنها على ما يبدو من وثيقة رسمية في الغرض للتفاوض  باسم  تونس لاقتناء اللقاح لبلادنا رغم أن المخابر العالمية تتعامل فقط مع الجهات الرسمية و خبراء الدواء وترفض عادة التعامل مع الوسطاء و السماسرة... واضافة للسماسرة يبدو أن تونس تحولت ايضا لجنة بالنسبة لبعض مخابر الأدوية على اعتبار افتقارها لخبراء في مناقشة صفقات اقتناء الأدوية التي تضع في المقام الأول نظام Risk Sharing.. حيث أن العقد يجب أن يتضمن بندا ينص على أنه في صورة حصول مضاعفات بعد التلقيح فإن الطرف المقابل ملزم بالتعويض، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية عدم تجاوب التلقيح بشكل ايجابي نظرا للخصوصية المحتملة La souche de virus المنتشر في تونس. لكن للأسف يبدو أن مسؤولينا يفتقدون الى الدراية والخبرة بسبل إنجاح مثل هذه الصفقات..

ولاشك أن هذه اللخبطة في التعامل مع ملف مصيري مثل ملف توريد اللقاح ضد كورونا فيه دلالات على الوضعية التي آلت إليها بلادنا نتيجة عجز السياسيين وعدم قدرتهم على تسيير شؤون الدولة .

قيس بن مراد

التعليقات

علِّق