الوضع الاقتصادي و الوعي العام: أيّ واقع و أيّة حلول؟

الوضع الاقتصادي و الوعي العام: أيّ واقع و أيّة حلول؟

 

لئن حققت تونس مكاسب تاريخية في مجال السياسة و حقوق الإنسان إبان ثورة الياسمين أوائل سنة 2011 فإن المتأمل في المشهد الإقتصادي العام للبلاد يدرك أن الوضع لا يشبه أبدا ما كان يتطلع إليه التونسيون و التونسيات منذ 8 سنوات. و لعل خير دليل على ذلك ما وصلت إليه المؤشرات الإقتصادية للبلاد من مستويات كارثية إذ وصل سعر صرف الدولار إلى حوالي 3 دينارات بعد أن كان أقل من دينارين إثنين سنة 2010 كما وصلت نسبة التضخم إلى 7.3% و نسبة التداين العمومي إلى 71.7% أما العجز التجاري فبلغ ما يقارب 20%.
 
وضع اقتصادي حرج
و إن فحصنا عن كثب ما سجلته المؤسسات العمومية ذات الصبغة التجارية من نتائج و أرقام، بان لنا جليا و واضحا أن هذه الأخيرة لعبت دورا كبيرا في تراجع مؤشرات الاقتصاد الوطني. و يعد هذا القطاع حوالي 102 مؤسسة عمومية ذات صبغة تجارية تساهم مجتمعة في 9.5% من الناتج الداخلي الخام سنة 2014 (مقابل 13% سنة 2010) كما تشغل 4% من اليد العاملة النشيطة و تستهلك 12% من كتلة الأجور. و الجدير بالذكر أن كل هذه المؤسسات تقريبا تشهد خسائر في ميزانياتها و قد بلغ إجمالي هذه الخسائر ما قدره 7 مليارات من الدينارات ما بين سنتي 2014 و 2016 ساهمت فيها 5 شركات بنسبة 89% وهي المجمع الكيميائي وشركة الاتصالات التونسية وشركة الفولاذ وشركة فسفاط قفصة والشركة التونسية للأنشطة البترولية و يعود ذلك بالأساس إلى الزيادة الرهيبة في عدد العمال مقابل تراجع كبير في الإنتاج و هو عائد أساسا إلى الإضرابات الطويلة و المتعددة التي شلت وحدات الإشراف و التصنيع فيها. و بصفة عامة فقد تضاعف عدد الموظفين في جميع المؤسسات العمومية ذات الصبغة الادارية من 94 ألف إلى 190 ألف موظف و موظفة ما بين 2010 و 2016 فقفزت كتلة الأجور من 2580 مليون دينار إلى 4000 مليون دينار بينما تحولت حصيلتها المالية العامة من 1176 مليون دينار من المرابيح سنة 2010 إلى خسائر بقيمة 1116 مليون دينار سنة 2016.
 
غياب الوعي العام والضمير المهني سبب للأزمة
و الحقيقة أن هذا الفشل الذريع للمؤسسات العمومية ليس عائدا إلى نقص في الموارد البشرية أو المالية بل هو راجع إلى عوامل أخرى مهدت مجتمعة لما نعيشه اليوم من تراجع مهين لمؤسسات كانت في زمن ما عمودا من أعمدة الاقتصاد و ورقة رابحة في عملية النهوض بمختلف القطاعات الحيوية بالبلاد. ولعل من أهم هذه العوامل، إن لم يكن أهمها، هو غياب الضمير المهني في فئة كبيرة من الموظفين و هو نتاج تراكمات أفكار و سلوكيات انتقلت بل و تفاقمت من جيل إلى جيل. أليس أغلب المواطنين اليوم يحلمون بوظيفة حكومية يضمنون بها عيشا هنيا "أو يكاد" أو كما نسميه اليوم في تونس "مسمار في حيط" ؟!
 
و ليس هذا كل ما في الأمر إذ أن الموظف بالقطاع الخاص يحصل على مرتب يفوق ما قد كان ليجنيه لو مارس نفس النشاط في القطاع العام و لكن البعض يؤمن ان الموظف الحكومي ليس من واجبه أن يعمل بجد و اجتهاد إنما يكفيه أن يكون حاضرا لساعتين أو ثلاث يقضي نصفها في قراءة الجريدة و احتساء القهوة و النصف الاخر في خدمة اصحابه و اقاربه و بعض المواطنين ممن ازعجوا كسله بالالحاح على قضاء حوائجهم فلا تقضى؛و إن قضيت لا يكون ذلك إلا بعد جهد جهيد و عناء شديد. و إننَا بهذا القول لا نقصد التعميم بل إننَا ندرك جيدا أنَ في بلادنا من لديه من حب الوطن و الضمير المهني ما يجعله لا يغادر مكتبه إلا و قد اطمئن قلبه أنه قد أدى عمله على خير وجه و لكن الوقت قد حان لأن نطرح المعضلة فننظر فيها و نعالجها و إلا فإن بلادنا ستبقى محكومة بتغطية العجز المالي للمؤسسات العمومية من عائدات ضرائبنا التي من المفترض أن تصرف في مشاريع التنمية و النهضة بالبلاد و العباد.
 
الخوصصة و التوعية كـحلّ
رغم عديد المؤاخذات، لا يمكن إنكار أن الخوصصة تمثّل إحدى الحلول النّاجعة في هذه الأزمة الاقتصاديّة. نعني بالخوصصة أيّة صفقة تؤدّي إلى التّحويل إلى أشخاص أو أشخاص معنويّين ذوي القانون الخاص في المؤسّسات العموميّة.
 
 و تأتي الخوصصة إجابة على العجز الهيكلي للمؤسّسات العموميّة الذي يثقل كاهل الدّولة حيث بلغت الخسائر المتراكمة في هذا الإطار حوالي 6.5 مليار دينار، إضافة إلى ضعف شديد في الفعاليّة و الأداء، خاصّة في ظرف لا تقدر فيه الدولة على القيام بإصلاحات جذرية نظرا للعجز المالي الحالي. إضافة إلى أن الخوصصة توفر مجالا أكبر و أكثر تنوعا من الخدمات و الأنشطة كما أنها تجذب المستثمرين و تضع حدا لأزمة العملة، إذ أن تكاليف الاستيراد يتحملها المستثمر لا الدولة، و كل هذا من شأنه أن يثري السوق و الإقتصاد الوطنييَن.
 
و مما لا شكّ فيه أن الحلّ يكمن أيضا في توعية المواطنين بضرورة التّحلي بحد أدنى من الضّمير المهني و الوطنيّة. فالوطن وطن الجميع، و كل ازدهار أو تدهور على مستوى الدّولة له بالضّرورة وقع على كافّة الشّعب، على يوميَ المواطن و على حالته الاقتصاديّة، الاجتماعيّة و النفسيّة. فلا سبيل للخلاص إلا بتوعية كافة فئات الشعب بخطورة الموقف و حجم العواقب. و لحسن الحظ فقد بدأت بعض الهياكل في السير في هذا الاتجاه خاصة منها الهياكل ذات الصبغة التطوعية التي تندرج ضمن ما يعرف بالمجتمع المدني. و يلعب هذا الأخير دورا محوريّا في الإرتقاء بالوعي العام، و نلاحظ منذ 2011 تحسّنا نوعيّا و كمّيا لهياكل المجتمع المدني، دالاّ على تقدّم إيجابي نحو رقيّ في التّفكير، بطيء و لكنه مطمئن. نأمل أن يترسّخ هذا الوعي لدى الجميع، فهو أساس التطّور الإقتصادي الإيجابي. ذلك أنه يحدّ من الفساد الإداري و التّواكل في العمل، ناهضا بالدّولة و مؤسّساتها
 
أخيرا، لا شك في أنّ الوضع الإقتصادي الحالي يسوجب حلولا في أقرب الآجال لإصلاح ما يمكن إصلاحه، و يجب أن يكون كلّ منّا مسؤولا في عمله و متحمّلا لمسؤوليّات مهنته، و لما لا مضحيّا ببعض من جهده لعلّنا ننقذ وطننا من أزمة حادة و حرجة، و نبني أسس تونس المنشودة.

 

التعليقات

علِّق