النشيد الوطني الرسمي وغباء التغيير
بقلم نوفل بن عيسى
إثر استقلال البلاد واعلان الجمهورية تقرر إنتاج نشيد رسمي للبلاد التونسية ونظمت مناضرة لذلك سنة 1958 انتهت باعتماد نشيد "ألا خلدي" وهو من نظم جلال الدين النقاش وتلحين صالح المهدي .
وبعد "التغيير المبارك" الذى اتى ببن علي إلى الحكم في 7 نوفمبر 1987 تقرر تغيير هذا النشيد بنشيد الثورة وطالعه "حماة الحمى" اذ أن اول نشيد للجمهورية التونسية يشيد بالزعيم الحبيب بورقيبة ايحاء وتصريحا ويذكره كالاتي"نخوض اللهيب بروح الحبيب زعيم الوطن" وبدلا عن تحيين هذا العجز والاستعاضة عنه، كأن يكون "نخوض اللهيب بروح الشهيد فداء الوطن" على سبيل المثال، قرر من كلفهم الرئيس بالمهمة تغيير النشيد برمته ويا خيبة المسعى وغباء التغيير.
وقد صدر في هذا الصدد مقال لمنال الوراقي بعنوان:
"حماة الحمى..... قصة النشيد الوطني التونسي المُؤلف في تمجيد تاريخ مصر" نشر على صفحات التواصل الاجتماعي في 27 جويلية 2019 هذا اهم ما ورد فيه:
"فعقب اندلاع ثورة 1919، بدأ الاتجاه لوضع نشيد وطني مناسبا للفترة الجديدة ومطالب الاستقلال في مصر، .... نشطت فكرة النشيد الوطني عند الرافعي، وعمل على تطويرها، وقام بتأليف عدد من الأناشيد الوطنية، من أجل التقديم في المسابقة، أولها كان «إلى العلا» الذي تقدم به في المسابقة الأولى عام 1920، ثم «اسلمي يا مصر» الذي رشحه للمسابقة الثانية لاختيار النشيد الوطني عام 1936، وعندما رفضته اللجنة، رشح نشيده الثالث «حماة الحمى»، لكنه حل في المرتبة الثالثة.......
قررت الحكومة التونسية اختياره واعتماده رسميا كنشيد وطني للبلاد في 12 نوفمبر1987، عوضا عن نشيدها الوطني "ألا خلدي".....
واجه النشيد بعض الانتقادات من خلال البيت الذي يقول: "ورثنا السواعد بين الأمم.. صخورا صخورا كهذا البناء"، والذي وصفه بعض النقاد بأنه لا يحمل أي معنى، مرجعين ذلك لعدم فطنة الحكومة التونسية في تعديل البيت الأصلي للقصيدة "ورثنا سواعد باني الهرم.. صخورا صخورا كهذا البناء"، لما فيه من تمجيد لتاريخ مصر."
وبقطع النظر عما سبق طرحه فقد وضع موسيقى هذا النشيد في روايته الاصلية الشيخ زكريا احمد في الثلاثينات من القرن الماضي في لحن (منشور على صفحات التواصل الاجتماعي) لا علاقة له البتة باللحن المتداول في تونس اذ أن هذا الأخير "من تدبير" الشاعر احمد خير الدين حسب ما يروى وليس من تلحين احد من أهل الصناعة الموسيقية!
والاكيد أن لحن "حماة الحمى" الذي اعتمدوه في الرواية التونسية ضعيف الصياغة ولا يرتقي موسيقيا أن يكون نشيدا رسميا وطنيا حتى أن زين العابدين بن علي طلب من محمد عبد الوهاب حين زاره في بيته في القاهرة ان يقوم بتهذيب النشيد وتوزيعه واعطائه بعدا جماليا وابداعيا ولكن دون نتيجة لأن محمد عبد الوهاب يأبى أن يشتغل على بناء مختل فضلا عن كونه ليس بموزع موسيقي وليس من اختصاصه جمع اشلاء أطلال قصيدة وترميمها!
وكون مؤلف النشيد شاعرا مصريا لا يعتبر مشكلا في حد ذاته اذ حتى النشيد الرسمي الجزائري مثلا قد لحنه المصري محمد فوزي كهدية منه للثورة الجزائرية ولكن:
- تعويض عبارة "مصر" ب"تونس" في النص لا يستقيم اذ أن لكل عبارة منها ايقاع شعري وللشعر بحور تحددها تفعيلات وبحر هذا النشيد المتقارب وهو ذات بحر ابيات قصيدة أبو القاسم الشابي التي اضافوها للنشيد وهو ما جعل ادارجها ممكنا.
- وكلما وردت عبارة تونس حصل كسر ايقاعي وكذلك الخطأ الشائع في لفظ "في عروقنا الدماء" بدل "في العروق الدماء".
- واضيف الى ما سبق انه تم حذف أربعة ابيات من نشيد الرافعي الاصلي اذ انها تتعرض الى "العرش" وهو ما يتناقض مع "الفكر الجمهوري" والابيات المذكورة هذا نصها:
بلادي احكمي واملِكي واسعَدي ... ولا عاش من لم يَعِشْ سَيِّدَا
بِحُرِّ دَمِي، وَبِمَا فيِ يَدِي ... أنا لبلاَدِي وَعَرْشي فِدَا
لكَ الَمجُدُ يا مِصُرُ، فاستمجدِي ... بعِزَّةِ شَعْبِكِ طُولَ المَدَى
وَنَحْنُ أُسُودُ اُلْوَغَى، فاشهَدِي ... وُثُوبَ أُسُودِكِ يَوْمَ الصِّدَام
وهذا نص الابيات المشار إليها كما الفها شاعرها في الأصل (المصدر: مجلة الرسالة/العدد 150) ولا كما حرفت:
حُمَاةَ الْحِمى، يا حُمَاةَ الْحِمى ... هَلُمُّوا، هَلُمُّوا لِمَجْدِ الزمَنْ
فقد صرخَتْ في العُروقِ الدِّمَاء ... نموتُ، نموتُ، ويَحْيَا الوطن
لِتَدْوِ السماواتُ في رَعْدِهَا ... لِتَرْمِ الصواعِقُ نِيرَانَها
إلى عِزِّ مِصْرٍ، إلى مَجْدِهَا ... رِجالَ البلادِ وَفِتْيَانَها
فلا عاش مَنْ لَيْسَ مِنْ جُنْدِها ... ولا عاش في مِصْرَ مَنْ خانَها
نموتُ ونَحْيا عَلَى عَهْدِها ... حياةَ الكرامِ وموتَ الكرام
وَرِثْنَا سَوَاعِدَ بَانِي الهَرَمْ ... صُخُوراً، صُخُوراً كهذا البِناَ
سَوَاعِدُ يَعْتَزُّ فيها العَلَمْ ... ُنبَاِهى بِهِ، وَيُبَاهِي بِنَا
وفيها كِفاَءُ العُلَى والهِمَمُ ... وفيها ضمانٌ لِنَيْلِ الُمنَى
وفيها لأعداءِ مِصْرَ النِّقَمْ ... وفيها لمنْ سالَمُونَا السلام
وحسب رأيي المتواضع فالآن وقد حل موعد ولادة جمهورية ثالثة فإما الرجوع إلى نشيد الجمهورية التونسية الاولى مع تحيينه كما بيننا في الفقرة الاولى من هذا المقال واعادة توزيعه موسيقيا أو صياغة نشيد وطني رسمي صالح "لكل مكان وزمان" لا يتغير بتغير الانظمة، يحتوي على بيتي الشابي الذين جابا العالم وعرفا بتونس وبشاعرها وهما:
"إذا الشعب يوما اراد الحياة ...فلا بد ان بستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي... ولا بد للقيد ان ينكسر"
أما فيما يتعلق بالموسيقى فلنا من الكفاءات في التلحين والتوزيع والتنفيذ ما يشفى الغليل ويبقى المشكل في أصحاب القرار واللجان ومن سيختار وابن العم وابن الخال ومن سيصلح ما افسده "غباء التغيير".
التعليقات
علِّق