المستشار الجبائي معاوية الكعبي: قوانين المالّية بين رمزّية الشكل و مفارقات االصل

المستشار الجبائي معاوية الكعبي: قوانين المالّية بين رمزّية الشكل و مفارقات االصل

يعتبر قانون الماليّة في بلادنا أهم حدث وطني يختم السنة الجارية ليكشف الوضعيّة الحقيقية للمالية العموميّة، مواردا و نفقات و أحجام أهم عناصر هاته و تلك و كذلك مستوى الاستثمار و العجز و الديون و الإقراض و ليعلن الرؤيا و البرنامج و الاليات المعتمدة من الحكومة للتصرّف و الاستثمار و تغطية الحاجيات و تأمين التوازنات الماليّة المتعلّقة بميزانيّة الدّولة في إطار من التواصل و التكامل و التنامي.
صحيح أنّ نهاية كلّ سنة، أصليّا، تكون حبلى بأحداث هامّة لعلّ أبرزها الاحتفال برأس السنة الإدارية المغادرة و احتضان السنة الجديدة بانتظارات و آمال و تطلّعات متفاوتة و منقسمة بين التفاؤل و التشاؤم و عدم الاهتمام.

إلا أنّ قانون الماليّة يبقى الحدث الأبرز ال فقط بالنسبة لكلّ الأجهزة التشريعية و التنفيذية و أصحاب المؤسسات الاقتصادية بمختلف أصنافها و شرائحها و قطاعاتها، بل و كذلك لدى كلّ العائلات التونسيّة لما للإجراءات المعتمدة من تأثيرات على حياة الدّولة و بقيّة الأجهزة الوطنيّة و كذلك على حياة المؤسسات الاقتصادية و حياة المواطنين بصورة عامّة.

لذلك فإنّ مشاريع قانون الماليّة قد أصبحت مستأثرة على اهتمام الجميع لما تحمله من كشوفات لواقع الدّولة خاصّة من حيث المالية العموميّة و لما تطلقه من صفارات إنذار تنبئ بالصعوبات و المخاطر و الإنزالات.

هذا، وإذا ما كان قانون الماليّة في الحقيقة ترجمة للوضعيّة الاقتصادية و الماليّة و الاجتماعية و حتى السياسيّة و الجغراسياسيّة للبالد في إطار زمني ما و بالتالي يحمل سمة الكشف عن الإطار الظرفي بهذا العنوان، فإنّه في نفس الوقت يقدّم الحلول المعتمدة من قبل الحكومة لتأمين كلّ الجوانب المتعلّقة بالسير الطبيعي و المتناسق و المتجانس للدّولة و كذلك الرؤى و البرامج المعتمدة على المدى القصير و المتوسّط.

وهذا المخطط الخماسي المنبثق عن وثيقة عشريّة، هو نفسه مفضي إلى وثيقة سنويّة، تعرف بــ" القانون الاقتصادي" و هي وثيقة تستعرض البرنامج السنوي الاقتصادي و الاجتماعي، كّما و كيفا، بالنسبة للسنة المعنيّة بقانون الماليّة المعروض.

غياب الأسس و تذبذب وجهات البوصلة:
اعتدال إطار إعداد مشروع قانون الماليّة يستوجب ثوابت أساسيّة لعلّ أهمّها الاتكاء على مخطّط تنمية اقتصادي و اجتماعي، على غرار ما اعتمدته تونس من مخطّطات خماسيّة في هذا الشأن، يمكّن إستراتيجيّا من تحديد الاختيارات و ضبط الحاجيات و الإمكانيات و تبويب الأولويات و بالتالي توجيه البوصلة بصورة مختارة و مرشدة.

وهذا المخطّط هو نفسه مستمدّ من وثيقة توجيهيّة أكثر امتدادا زمنيا إذا هي بالأساس عشريّة، و عامّة الإطار و المحاور و الاهتمامات.

وعلى هذا الأساس فإنّ توازن و رشد قانون الماليّة متوقفان بصورة عامّة على بعض الأسس و الرّوافد و الأطر التي تحدّد التوجّهات و تضبط الأهداف و تساعد على اختيار الآليات الكفيلة بتحقيق أهداف المخطّط المعتمد.

وإذا ما غاب هذا الأساس أو همّش أو ترك جانبا، فإنّ الأمر يصبح من باب الارتجال و السقوط في إكراهات الظروف و الإبعاد على كل ما هو منظم و معدّ بكل أريحيّة و ترشد.

ومن هذا فإنّ عدم اعتماد هذا التمشي يشير كذلك و بصورة واضحة إلى التذبذب في الاختيار و إلى عدم الاستقرار السياسي و الحكومي و المؤسّساتي و إلى اضطراب في الرؤيا و في القرار.

وبالتالي و من ناحية أساسيّة فإنّ إعداد قانون الماليّة لسنة 2021 على غير هذا الأساس القاعدي المنهجي والإستراتيجي، لمؤشّر هام على تفكك المنظومة الوطنية من حيث غياب المخطّط التنموي الواضح المعالم و التوجهات و الاختيارات المحدّدة، إذ ال يستوي الظل و العود أعوج.

وضرورة وجود هذه الأسس و الرّوافد قد أقرّتها أحكام القانون الأساسي الجديد ّالذي عوّض قانون 2004 للميزانيّة (عدد 15 لسنة 2019 المؤرّخ في 13 فيفري 2019) الذي عوّض كلمة "التكميلي" بالنسبة لقانون المالية، بكلمة "التعديلي"، و التي نصّت، في الفصل الرابع، بأنّ الترخيص في جملة موارد الدّولة و تكاليفها، يتمّ في إطار مخطّطات التنمية و الميزان الاقتصادي و في إطار الميزانيّة متوسّطة المدى.

كما أشار نفس القانون إلى أنّ إطار "متوسّط المدى للميزانيّة"، يأخذ شكل آلية برمجة متجزئة تمكّن من إعداد ميزانيّة في أفق متعدّدة السنوات و محدّد في ثالث سنوات مع تحيينها كل سنة.

أهم المراحل التي يمرّ بها مشروع الميزانيّة :

تقديم الميزانيّة :

يتضمّن كل من مشروع قانون الماليّة للسنة و قانون المالية التعديلي، أحكاما و جداول تفصيليّة و يرفق مشروع قانون المالية للسنة، بتقرير حول ميزانية الدولة في إطار التوازنات العامّة يقوم بالأساس على تحاليل بعض الأسس و العناصر المتعلّقة خاصّة بتطوّر الموارد و النفقات و الوضعيّة الاقتصادية و الفرضيات المعتمدة و مشاريع الأداء و حجم الدّين العمومي.

المصادقة :
يصادق مجلس النواب على مشروع قانون الماليّة للسنة، المعروض عليه في أجل أقصاه 10 ديسمبر من السنة، و يحيله إلى رئيس الجمهوريّة في أجل أقصاه اليوم الموالي لتاريخ المصادقة.

يصادق مجلس نواب الشعب على مشروع قانون المالية التعديلي المعروض عليه، في أجل أقصاه 21 يوما بداية من تاريخ إحالته عليه من قبل رئيس الحكومة، على أن تتمّ المصادقة عليه قبل المصادقة على قانون الماليّة.

وبما أنّ هاته الإحالة قد تمّت في 14 أكتوبر 2020 فإنّ الأجل المذكور يكون في حدود تاريخ 4 نوفمبر 2020

التصويت :

يتمّ حسب التسلسل التالي :
- تقديرات النفقات حسب المهمّات، - تقديرات المداخيل حسب القسم،
- جملة مداخيل ونفقات كل حساب خاص في الخزينة، - جملة مقابيض حسابات أموال المشاركة - العدد الجملي للأعوان المرخّص فيهم بالوزارات.
-   وفي النهاية التصويت بصفة جمليّة ونهائيّة على مجموع أحكام قانون الماليّة.

عدم المصادقة على مشروع قانون المالية للسنة في أجل 31 ديسمبر: في هاته الحالة يمكن تنفيذ المشروع فيما يتعلّق بالنفقات بأقساط ذات 3 أشهر قابلة للتجديد و ذلك بمقتضى أمر رئاسي.

وهذا أمر غير مستبعد بالمرّة في ظلّ الاختلافات و التناقضات و الصعوبات التي ميّزت الوضعيّة الاقتصادية والاجتماعية و الماليّة و الصحيّة في هاته السّنة، و هي وضعيّة غير مسبوقة بالمرّة بل و يخيّم عليها حتّى الإفلاس.

هذا ما جنته السياسة على تونس :

- من الناحية الرمزيّة، إنّ إقران قانون الماليّة للسنة الجديدة بقانون ماليّة تكميلي للسنة الجارية، و هو أمر قد أصبح مألوف لدى التونسيين، للـه أكثر من معنى و من مغزى و من مدلول حيث أنّ هذا الأمر يؤكد حقيقة و عمق الاختلافات بين التصوّرات و التقديرات المعتمدة من قبل الحكومة لإعداد الميزانيّة و بين الواقع ّالذي اكتشفته تلك الحكومة بمرور أشهر السّنة المعنيّة بتلك التقديرات.

ذلك أنّ سنواتنا قد أصبحت متميّزة بصورة قارّة و ثابتة و متواصلة بسنّ قانوني ماليّة لكلّ سنة : قانون ماليّة تكميلي يتعلّق بالسنة الجارية و قانون ماليّة أصلي موجّه للسنة القادمة.


صحيح أنّ المتغيرات العالميّة لها تأثيراتها على المؤشرات والتقديرات الأولية و المعتمدة بقانون الماليّة و لكن هذه المتغيرات الأولية ليست لوحدها الفاعل بمنظومة قانون الماليّة حيث أن الإضرابات الدّاخليّة و الأحداث الوطنيّة و التقلبات الحكوميّة و الخصومات السياسيّة لتحمل تداعيات كبيرة على كلّ المجالات خاصّة منها الاقتصادية و الاجتماعية، و لتكبّل كل المسؤولين ّالذين يرنون إلى إخراج الحكومة من عنق الزجاجة.

فعال أنّ أكبر بليّة نزلت بالشعب التونسي ّالذي كان يطوق ال إلى الحريّة فقط و لكن و خاصّة إلى الكرامة الإنسانية من حيث الشغل الممكن و مستوى العيش الطيب و الحياة الهنيئة، لهي بليّة السياسة التي قلبت كلّ الموازين و التطلعات و خيّبت كلّ الظّنون و الآمال و الانتظارات جارفة إلى الصّفوف القياديّة التي تسطّر مصير البالد أنواعا شتى من ذوي المصالح الفرديّة و المآرب الشخصيّة التي تخدم مكانتهم و تحمي مصالحهم بل و تحميهم هم أنفسهم قبل حماية العباد و البالد.

وعليه و طالما يظلّ الوضع السياسي متعفنا بهذه الصورة خادما لغايات أشخاص، فإنّ ميزانيّة الدّولة سوف تظلّ على نفس السياق بل و سائرة من صعوبة إلى صعاب حيث أنّ كلّ الإشكاليات التي تعرفها الميزانيّة و هي بالأساس ماليّة هي إشكاليات متأتية من الوضع السياسي المتميّز التجاذبات و المناكفات و النزاعات و من الوضع الاقتصادي و الاجتماعي المتميّز هو الآخر بالتظاهرات و الاضطرابات و الإغلاقات و ما شابهها
وهذه الإشكاليات سيكون لها ثمن أكبر في الغد و في المستقبل بما يكبّل سلبيّا مجهوداتنا و مشاعرنا و ما يطفئ تدريجيّا شمعة األمل لدى أبنائنا و أطفالنا و أجيال تونس المستقبل.

دلالة الأرقام :


حيث أنّ الأرقام وحدها هي التي تنطق بالحقيقة، فإنّ جولة تاريخيّة عبر ميزانيات الدّولة التونسيّة أثناء العشريّة الأخيرة (2010-2020) لكفيلة بإبراز الاختلال الكبير و المتصاعد بين إمكانيات الدّولة و التزاماتها.

• سنة 2009 : كان الحجم الجملي لميزانيّة الدّولة بعنوان سنة 2009 في حدود 17.100 مليار دينار، تمثّل فيها الموارد الذاتيّة 12.4 مليار دينار و موارد العنوان الثاني 4.066 مليار دينار و موارد الإقراض 3.8 مليار دينار

• سنة 2010 : كان حجم الميزانيّة في حدود 18.235 مليار دينار منها 12.845 مليار دينار موارد ذاتية و 6.825 مليار دينار للتأجيرات و موارد العنوان الثاني بــ 4.402 مليار دينار.
و كانت نسبة التداين الخارجي في حدود %37 و العجز الجاري في حدود .%3

• سنة 2013: كان الحجم الجملي للميزانيّة في حدود 26.692 مليار دينار، مقسّمة بين عنوان ّأول أي موارد ذاتيّة مقدّرة بــ 17.990 مليار دينار و 7.542 مليار دينار للعنوان الثاني، و صعدت فيه الأجور إلى ما يقارب الــ10.000 مليار دينار.

و تواصل في إطار قانون الماليّة لهذه السنة، اختلال التوازنات المالية للدّولة حيث بلغ حجم العنوان الأول 17990.000 مليار دينار على مستوى الموارد في حين بلغت النفقات 18144,700 مليار دينار.

• سنة 2015  قانون الماليّة التكميلي : صعد الحجم الجملي للميزانيّة إلى 27.786د مليار دينار كانت فيه الموارد الذاتية في حدود 20.000 مليار دينار و موارد الإقتراض 7000 مليار دينار و صعد فيه حجم التأجير إلى 11.631 مليار دينار مصاريف التصرّف تضاعفت و صعد الحجز إلى %12 و كان أعباء صندوق الدّعم في حدود 5.5 مليار دينار.

• سنة 2020 حسب قانون الماليّة الأصلي : الحجم الجملي للميزانيّة : 47.227 مليار دينار المداخيل 35.859 مليار دينار و المصاريف 39.191 مليار دينار و العجز 3.332 مليار دينار،
• الاقتراض : 11.368 مليار دينار، التأجيرات : 19.030 مليار دينار.

و إذا ما كانت الاستنتاجات متعدّدة و متنوّعة و متوقّفة على عنصر التركيز أو الاهتمام أو الاختصاص، فإنّ الاستنتاج العام يفضي إلى ملاحظة تطوّر الموارد الذّاتية القائمة على الموارد الجبائيّة و غير الجبائيّة الذّاتية من 2010 إلى 2020 (12.845 مليار دينار إلى 35.000 مليار دينار أي ما يعادل 22.2 مليار دينار في حين تطوّرت مصاريف التصرّف من 9.300 مليار دينار إلى 28.263 مليار دينار أي بزيادة ما يقارب 22 مليار دينار.

و هذا يعني أنّ معدّل نسبة تطوّر المصاريف كانت في حدود 1.9% و الفارق 0.32% لضئيل جدّا، بما يقود في النهاية إلى استنتاج تطوّر شبه معقول في الموارد الذّاتية خاصّة و ّأنها قائمة بالأساس على الموارد الجبائيّة و لكن تنامي غير مرشد للأعباء و لنفقات الدّولة التي ما تكون في العادة موجّهة إلى التقليص و ليس إلى الارتفاع بهذا النسق و المستوى.

إذا فالسّمة العامّة للعشريّة المذكورة (2010-2020) هي بالأساس تنامي ظاهرة تكدّس النفقات بدون تطابقها مع ثروات الإنتاج.

الحدث المميّز و الفريد من نوعه، المتمثّل في إسقاط محافظ البنك المركزي لمشروع قانون المالية التكميلي :

• دستوريّا، نصّت أحكام الفصل 66 من الدّستور على ضرورة تقديم الحكومة إلى مجلس نواب الشعب، في أجل ال يتعدى 21 أكتوبر من كلّ سنة، لمشاريع قانون الماليّة المعروضين على المصادقة من قبل المجلس المذكور.

فإنّه وحسب نفس الإطار الدّستوري يتوجّب على المجلس المصادقة على مشاريع القوانين و ذلك إلى حدود تاريخ 22 ديسمبر.

وحيث أنّ الحكومة قد احترمت أجل مدّ مجلس نوّاب الشعب بمشاريع قانون الماليّة التكميلي لسنة 2020 و قانون ماليّة الأصلي لسنة 2021 إذ تمّت العمليّة بتاريخ 22 أكتوبر 2020، فإنّ على مجلس نوّاب الشّعب الإعراب، عبر لجنة الماليّة ثمّ عبر جلسته العامّة، عن مصادقته على المشاريع المذكورة بعد إجراءات التنقيحات التي يمكن أن تدخل على النصوص الأصلية المقدّمة من الحكومة.
هذا هو الإطار العادي.
و لكن ما حصل هاته السنة، و هو سيناريو انطلق منذ السنة الماضية و حتّى من قبل، مع الرفض الضمني للجنة الماليّة (المؤقتة) بمجلس نواب الشعب، لمشروع قانون المالية المتعلّق بسنة 2020 على أساس أنّ شكوكا تحوم حول صحّة الأرقام المضمّنة به، لهو حدث فريد من نوعه و سابقة أولى في تاريخ الميزانيّة التونسيّة حيث أنّ محافظ البنك المركزي قد قلب الطاولة هذه المرّة على الحكومة و ذلك بعد أن أبدى صراحة تحفظات على صيغ تعبئة الحكومة للموارد المالية اللازمة لسدّ عجز الميزانيّة المتعلّقة بسنة 2020 أي رفض البنك المركزي تمويل خزينة الدّولة.

و هو ما دفع بلجنة الماليّة و التخطيط و التنمية، التي كان من المتوقّع أن تصادق على مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2020 يوم الجمعة 30 أكتوبر 2020، من اعتماد نفس الموقف و من إسقاط مشروع قانون الماليّة التكميلي المعروض عليها، حسب الصيغة التي ورد بها، و من دعوة المجلس للحكومة لسحب مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2020 المقدّم من قبلها و ذلك لتعديله على أساس بعيد عن تحفظات البنك المركزي.

و هو أمر سلّمت به الحكومة حيث سحبت مشروع قانون الماليّة التكميلي المذكور لإعادة بناء أسسه من جديد.
وسبب تحفظ محافظ البنك المركزي، هو الموقف ّالذي اتخذته الحكومة بعنوان تعبئة الموارد المالية لسدّ عجز الميزانيّة بما قدره 10.3 مليار دينار في أجل الشهرين المتبقين من سنة 2020 بالتوجّه للاقتراض الدّاخلي بهذا العنوان.

هذا و قد أشار محافظ البنك المركزي إلى الحلول التي يمكن للحكومة أن تتبعها أما تفاقم عجز الميزانيّة و هي متعلّقة بالتقليص في النفقات العموميّة خاصّة فيما يخصّ الالتزامات غير المستوجبة حينيا و كذلك في تكثيف العمليات المتعلّقة باستخلاص الدّيون الجبائيّة و في نشر عمليّات المراقبة الجبائيّة على كلّ المارقين عن الحظيرة الجبائيّة و كل الناشطين في القطاعات الموازية و غير المعترفين بالمساهمة الضروريّة الوطنيّة في المجهود العام للبناء و التشييد و التطوّر و النموّ.

و هذا الموقف المعلن عنه من قبل محافظ البنك المركزي قد الح، في الحقيقة، منذ صدور بالغ هذا الأخير مساء يوم الثلاثاء 27 أكتوبر 2020 و ذلك على إثر انعقاد مجلس إدارته.

و ما يمكن أن يلاحظ في هذا الصّدد هو أنّ دعوة اللجنة المالية لمحافظ البنك المركزي قبل الاستماع إلى وزير الماليّة هي فكرة طيّبة و صائبة.

و من مفارقات الأشياء، أنّ هذه الوضعيّة و هذه الأزمة قد ترشّد الحكومة و تدفعها لمزيد من الشجاعة و الجرأة و تحمّل المسؤوليّة و مجابهة الصعوبات و العقبات بمواقف و قرارات مناسبة و ضروريّة و ذلك تجاه كل الأطراف المهنية و الاجتماعية و الماليّة، و التخلّي عن العمل بسياسة التنازلات و الإضاءات و البالغات الضبابيّة و بطولات الإكراه و الانتقال إلى سياسة المواقف الشجاعة و الحاسمة و لو ّأنها موجعة.

و لكن و من جهة أخرى، فإنّ ما يعاب على مشروعي قانون الماليّة، التعديلي لسنة 2020 و الأصلي بعنوان سنة 2021، هو قلّة الإحساس اللازم و الكافي بخطورة الوضع بدرجة سلبيّة المؤشرات خاصّة الاقتصادية و الماليّة، حيث يلوح المشروعان و كان الأمر ظرفي و سحابة عابرة سوف تزول سريعا، في حين أنّ كلّ اقتصاديات بلدان العالم قد أقرّت نزولا كبيرا لنسب النموّ، إلى حدّ سلبي برقمين (فرنسا : %12- مثال) و عدّلت من تقديراتها على أساس مؤشرات صحيّة تشير إلى تواصل تداعيات جائحة الكورونا إلى منتصف السنة القادمة.

و الآن، الآفاق و الحلول :

الإشكال ّالذي طرحه محافظ البنك المركزي يتعلّق بالبند الرابع (4) من الفصل 25 من القانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرّخ في 25 أفريل 2016 المتعلّق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي، و ّالذي نصّت أحكامه على ما يلي :

4" لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامّة للدّولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدّرها الدّولة.

و ال ينطبق هذا التحجير على عمليات المساعدة الماليّة التي يمنحها البنك المركزي حسب الشروط المبينة بهذا القانون لفائدة البنوك و المؤسسات المالية التي تملك الدّولة بصفة مباشرة "سندات تصدرها الدّولة".


إذا فالإشكال قانوني، و هو موضوع واسع الأرجاء طالما حامت حولة مناقشات و اختلافات و مواقف متباينة مندرجة في إطار إقرار استقلالية البنك المركزي عن الحكومة تجنّبا لكلّ تأثير أو استغلال أو ارتهان و هو الموقف ّالذي أثبتته المؤسسات المالية العالمّية المقرضة لتونس في هذا الصّدد و هو كذلك الموقف ّالذي تبيّنه بعض كتل المعارضة بالبرلمان، تشبّثا باستقلالية هذا البنك.

و لكن اليوم أحسّ الجميع بأنّ البنك المركزي هو المدعو لإنقاذ الموقف المالي العمومي ألنّه ال حلّ بديل عنه سوى الترفيع في الجباية التي يكون مردودها حيني أي بعنوان الشهرين الأخيرين، و ال يمكن أن يكون ذلك الا عبر الأداءات غير المباشرة التي يتمّ التصريح بها شهريّا و الحال أنّ مستوى الضّغط الجبائي العام مرتفع إلى حدّ كبير أو المزج بين هذا التوجّه و منظومة الاقتراض الدّاخلي عبر آليّة السّندات و هو أمر ال يمكن أن يغني أو يسمن من جوع، أو في النهاية، التوجّه لصندوق النقد الدولي ّالذي قد يكون أوصد أبوابه أمام تونس لعدم التزامها بالقيام بالإصلاحات الأساسية الكبرى المتّفق عليها.

هذا و ما يمكن التذكير به في هذا الصّدد هو أنّ البنك المركزي الأوروبي، قد تحرّك في إطار هذه الظروف الاستثنائية التي فرضتها تداعيات جائحة الكورونا، لشراء ديون البلدان الأوروبية العضوة و ذلك في حدود %20 منها.

و المتأمّل في الوضعيّة الماليّة يلاحظ من جهة، تضاعف حجم الدّين العمومي خلال السنوات الثالثة الأخيرة 2016 و2017 و2018 في حين أنّ الميزانيات المقدّمة بعنوان هاته السنوات لم تبرز هذا التصاعد المفزع و من جهة أخرى، بأنّ الدّولة، إلى جانب القروض الكبيرة التي قامت بها بالعملة الوطنّية أي بالدينار فإنّها قد توجّهت كذلك إلى الاقتراض بالعملة الصعبة لدى البنوك، و ذلك بمتابعة من البنك المركزي.


إذا التوجّه اليوم بصورة متفق عليها جميعا تقريبا هو تعديل أحكام الفصل 25 المذكور على أساس يسمح للبنك المركزي بتمويل خزينة الدّولة في حدود نسبة معيّنة مستندة إلى الناتج الوطني الخام 5%  مثلا و لكنّها مرتبطة بحدود زمنيّة 8 أشهر مثلا.
و كلّ هذه التغييرات و التعديلات و التنقيبات يجب أن تتمّ قبل أجل 9 ديسمبر 2020 بالنسبة لقانون الماليّة التعديلي بعنوان سنة 2020 و 10 ديسمبر 2020 بالنسبة لقانون الماليّة بعنوان سنة 2021.
الثابت أنّ كلّ الأطراف ستتوصل إلى حلّ في هذا الشأن و لكن الوضعيّة ستبقى طويلا صعبة ماليا و اقتصاديا و اجتماعيا بل ستزداد عسرا طالما أن مثل هذه السياسات و مثل هذه العباد هي التي تقود البالد.


معاوية الكعبي، مستشار جبائي،
مدّرس بالجامعة و المعاهد و الكليات التونسّية
و باحث في ميدان الجباية

 

التعليقات

علِّق