العم سام فى مواجهة سندروم "هواوى" !
من السندروم "الفايسبوكى" الذي لم يستثنى أحدا من طريقه، كشفت تغريدات العديد من كبار الموظفين "بالبيت الابيض" عن سندروم رقمي جديد يحمل إمضاء عملاق الاتصالات الصيني "هواوى".. أعراضه تتمثل فى حالة القلق والاضطراب الشديدين "للعم سام" نتيجة خوف داخلي رهيب من فقدان التفوق فى المجال الرقمى.. سندروم أقحم العالم فى مرحلة متفردة من العلاقات الدولية وصّفتها بالحرب الباردة فى نسختها الرقمية.. "أرضها الموعودة" شبكة الانترنات و"أحبارها الكبار" les grands rabbins العمّ سام والتنين الصيني والدب الروسي...
من نتائج الأعراض "الهواوية" المباشرة إصدار الادارة الامريكية السابقة لمرسوم ناري يحجّر على جميع الشركات الأمريكية من التعامل التجاري مع "هواوى" لما تمثله " هواوى شيء خطير للغاية، عندما تنظرون الى ما فعلوه من وجهة نظر أمنية، من وجهة نظر عسكرية، تجدون أنه خطيرا للغاية"وفق تعبيرات الرئيس السابق "ترامب" ليتابع مستدركا فيما بعد " لكن من الممكن أن يتم تضمين "هواوى" فى اتفاق تجارى. اذا توصلنا لاتفاق، فانا أرى هواوى مدرجة فيه بطريقة أو أخرى"!
بالعودة قليلا الى الخلف، فالتحرّش الامريكى بالشركات الصينية الرائدة فى مجال الاتصالات لم يكن وليد اليوم بل تزامن مع تقرير لجنة استخباراتية تابعة لمجلس النواب الامريكى سنة 2012 تضمّن حينها "ان شركتي هواوى و ZTE يمكنهما اعتراض الاتصالات وشنّ هجمات الكترونية على البنية التحتية الأمريكية كشبكة الكهرباء..."، كما حذّر مدراء وكالات الاستخبارات الأمريكية الستّ لدى استجوابهم أمام الكونغرس السنة الفارطة المواطنين والشركات الأمريكية من استخدام معدّات وتطبيقات هواوى.. وفى سنة 2017 تعرّض عملاق الاتصالات الصيني ZTE الى عقوبات أمريكية مالية مؤلمة من أجل خرقه للحظر الامريكى المفروض على إيران.. ليتواصل مسلسل مطاردة "العفاريت الرقميين" الجدد بإيقاف المديرة المالية وابنة الأب المؤسس لهواوى بمدينة Vancouver الكندية قبل ان يفرج عنها بكفالة، والبقية تأتى...
بما تفسر هذه الفوبيا الأمريكية من شركة صينية رائدة فى مجال الاتصالات يتم بالكاد تداول أسهمها فى أسواق الأوراق المالية فى العالم مقارنة بعمالقة الواب الصينيين التقليدين ؟ لما لم يتم التحرش بعملاق التجارة الإلكترونية الصيني Ali Baba على سبيل مثال التى تداول أسهمه فى أكبر بورصة فى العالم NYSE ؟ ألم يكن الجيل الخامسG 5 مجرد القطرة التى أفاضت الكأس لا غير؟
أكيد أنّ فى الأمر سرّ - يتجاوز مجرّد الصعود الصاروخي "لهواوى" فى التصنيفات والترتيبات الدولية - سنحاول تعقب تفاصيله قدر الإمكان...
أولا : اتهامات أمريكية موجهة للأب المؤسس Ren Zhengfei ورئيسة مجموعة هواوى Sun Yafang
تأسست شركة هواوى رسميا سنة 1987.. مقرّها الرئيسي يوجد بمنطقة Shenzhen الاقتصادية جنوب البلاد التى تعدّ من أبرز عناوين نجاح سياسة الانفتاح الاقتصادي للصين بقيادة الزعيم السابق Den Xiaoping .. تتصدّر "هواوى" دون منازع قطاع المعدّات الإعلامية فى العالم والثانية فى حجم مبيعات الهواتف الذكية قبل العملاق الامريكى Apple.. تشغّل أكثر من 270 ألف موظف داخل وخارج الصين ولديها أكثر من عشرين مركز للبحوث والتطوير فى مختلف أنحاء العالم.. مؤسّسها Ren Zhengfei عقيد سابق بجيش التحرير الشعبي APL وعضو نشط بالحزب الشيوعي الصيني الى اليوم.. متحصل على شهادة فى الهندسة المدنية من جامعة Chongqingالشهيرة.. عمل فى بداية مشواره بإحدى المعاهد البحثية العسكرية قبل ان يتم ترشيحه بمناسبة الندوة الوطنية للعلوم سنة 1978 كمندوب لجيش التحرير الشعبي، خطة لا يحظى بها إلا المقربون من القيادة الصينية انذاك.. زوجته الأولى Meng Jun ابنة أحد كبار القادة النافذين فى جيش التحرير الشعبي الصيني .. مولع الى حدّ الهوس بكتاب "فنّ الحرب" للاستراتيجي العسكري الصيني الفذّ Sun Tsu .. يتمتع بعلاقات مميزة بالزعماء الصينيين المتتالين بمن فيهم رجل الصين القوى الرئيس الحالي Xi Jinping .. وفى معرض تعليقه على علاقته القوية بالحزب الشيوعي واتهام شركته بالتجسس لصالح السلطات الصينية أجاب Ren Zhengfei بشكل مشفّر " أنا أحب بلادي، وأدعم الحزب الشيوعي لكن لم أسعى مطلقا الى الإساءة الى بقية العالم" ...
أما رئيسة مجموعة "هواوى" Sun Yafang - المصنفة سنة 2016 من بين الخمسين امرأة الأكثر نفوذا فى العالم من مجلة فوربس الأمريكية - فان العديد من التقارير الصادرة عن "وكالة الاستخبارات الأمريكية" تؤكّد بأنها كانت تعمل بوزارة أمن الدولة (MSS) Ministry of State Security قبل ان تلتحق "بهواوى"، ولازلت تحافظ على علاقات وثيقة مع هذا الجهاز...
ومن بين الشبهات التى لازالت تتردد الى الآن حول علاقة "هواوى" بجهاز الاستخبارات الصيني MSS الدور المحوري التى لعبته "هواوى" عند تصميم وتطوير "الجدار الناري الكبير للصين" Le grand firewall chinois إبّان فترة الرئيس Juan Zemin، مشروع صمّم بغاية فرض الرقابة الشاملة على البيانات والمعلومات المتبادلة داخل الشبكة ...
ثانيا : توجّس أمريكي كبير من سياسات "هواوى" فى مجال البحث والتطوير
وفق تصنيف أعدّته المفوضية الأوروبية للشركات الأكثر استثمارا فى العالم فى مجال البحث والتطوير لسنة 2018، احتلت "هواوى" المركز الخامس فى الترتيب العام من بين أكثر من 2500 شركة ضخمة، باستثمارات ناهزت 11,33 مليارات أورو.
على امتداد العديد من السنوات، أنشأت "هواوى" قرابة 26 مركز للبحوث والتطوير تغطى جميع مجالات تكنولوجيا الاتصال والذكاء الاصطناعي.. تشغّل عشرات الآلاف من المهندسين فى علوم الحاسوب و700 مختص فى الرياضيات و800 فى علوم الفيزياء و120 مختص فى الكيمياء.. كما تمتلك "مركز للبحوث الإستراتيجية" مهمته الحصرية استقطاب نخب العالم فى المجالات العلمية الحيوية خدمة لمشروع الزعيم الصيني الجديد فى قيادة العالم رقميا بحدود منتصف هذا القرن (يصادف هذا التاريخ الاحتفال بمرور مائة سنة عن اندلاع الثورة الصينية سنة 1949)...
من مجموع براءات الاختراع les brevets d’invention المودعة على المستوى الاوروبى تحتل شركة "هواوى" المركز الأول كما تستأثر بنسبة 27 بالمائة من براءات الاختراع ذات العلاقة بالجيل الخامس من الاتصالات عبر الموبايل متقدمة على بعد سنتين أو ثلاث عن منافسيها المباشرين Samsung - Nokia - Ericsson ...
فى نفس الخط التصاعدى، عمدت "هواوى" فى السنوات الأخيرة الى تكثيف روابط الشراكة بينها وبين العديد من جامعات الشمال والجنوب (بالمناسبة أبرمت "هواوى" اتفاقية شراكة لمدة ثلاث سنوات مع إحدى الجامعات التونسية الخاصة موفى سنة 2017 بموجبها تم بعث أكاديمية تابعة "لهواوى").. استراتيجية ذكية كفيلة بأن تحقق "لهواوى" فى المنظور المتوسط والبعيد إشعاع واسع فى الأوساط الأكاديمية والعلمية فى العالم واستدامة أكبر لمنتجاتها فى مستوى الترويج والتجديد التكنولوجي...
من الملفت للانتباه أيضا أنّ منذ انبعاثها، تنتهج "هواوى" إدارة تشاركية فى توزيع رأس مالها بحيث يمتلك الأجراء غالبية الحصص الاجتماعية، نموذج أثبت نجاعة عالية منذ أكثر من 25 سنة، وأمسى مصدر إزعاج للعديد من دوائر التفكير الأمريكية، فكيف يمكن لحوكمة تشاركية ان تنجح بهذا الحجم السريالي خارج المفاهيم النيوليبرالية المتوحشة ؟!
بمختصر الحديث، من الواضح أنّ حقيقة المخاوف الاسترتيجية الأمريكية المعبّر عنها "بسندروم هواوى" تتمحور أساسا حول مخاطر توظيف السلطات الصينية للخبرات الكامنة والرهيبة "لهواوى" فى اتجاه دعم وتطوير قدرات الجيش السيبرانى الصيني المعروف باسم الوحدة "61398" المتخصّصة فى الحرب الالكترونية، خاصة وأنّ العالم على أبواب ثورة "انترنات الأشياء" Internet des objets التى قد تأتى على ما تبقى من الأخضر واليابس !
بقلم محجوب لطفى بلهادى: باحث متخصّص فى التفكير الاسترتيجى
التعليقات
علِّق