الصناعة البولونية لألعاب الفيديو تجلب الأنظار والاهتمام في تونس

  الصناعة البولونية لألعاب الفيديو تجلب الأنظار والاهتمام  في تونس

أصبحت الصناعات الإبداعية البولونية  تحتلّ مكانة لها في دائرة الضوء في العديد من الجامعات التونسية . وبفضل مشروع التعاون  " الحالمون الرقميّون " أو " Digital Dreamers   "  بين السفارة البولونية بتونس و مبادرة تونس لتنمية التفكير المتوسطي (MDI )  تمكّن الطلبة التونسيون من التعوّد على صناعة الألعاب البولونية التي لم تكن معروفة عندنا أو تكاد .
وعندما نقول تكاد فلأن كافة الشبان يعرفون  لعبة " The Witcher III.  "  .ولعلّ هذا النجاح العالمي  المولود في مقرات مؤسسة  " CD Projekt Red " بمدينة فرصوفيا  يسلّط الضوء  على  الكون الرائع للساحر  في القرون الوسطى (The Witcher  )  الذي أسسه  الكاتب    "  Andrzej Sapkowski "  وهو أحد أهمّ الكتاب الرائعين  الأكثر شهرة في بولونيا خلال التسعينات .
ولم تكن  مجموعة "  CD Projekt Red  " التي تأسست سنة 1994  في الأصل سوى موزّع عادي ومترجم لألعاب الفيديو الأجنبية . لكنها أصبحت بسرعة  " قصّة نجاح "  عالمية حقيقية  وهي اليوم تتربّع على عرش 3 ستوديوهات  في كل من فرصوفيا و كراكوفيا و " وروكتاو " (Wrocław  ) .وليس هذا فقط ذلك أن هذه المجموعة مدرجة اليوم بالبورصة برأس مال يفوق 3 مليارات من الدولارات . ويعمل الأستوديو اليوم على تطوير نوع جديد من ألعاب المستقبل وهو  " Cyberpunk 2077 " الذي سيؤكّد المكانة التي تحتلها صناعة ألعاب  الفيديو البولونية على الساحة العالمية .

أسرار النجاح البولوني
انطلقت صناعة ألعاب الفيديو البولونية في البروز خلال العشرية الممتدة من سنة 1980 إلى سنة 1990 . وقد كان ضعف الحماية بالنسبة إلى مسألة الملكية الفكرية في تلك الفترة الشيوعية عاملا مشجّعا على الخلق بما أن المهوسين البولونيين كانوا قد بدؤوا تعلّم التقنيات من خلال قرصنة  الألعاب الأجنبية . وهكذا  تطوّرت مجموعة حقيقية من اللاعبين  والمبرمجين الذين لم يتأخروا عن الاهتمام بإنتاج المضامين . وقد استطاع الكثير منهم أن يصبحوا من صانعي ألعاب الفيديو التي تدرس ذاتيّا  " autodidactes  "  .
وعندما يضاف الولع بالخلق والتجديد  إلى اليد العاملة المختصّة وتكاليف الانتاج الضعيفة والمحيط الملائم للأعمال فإن ذلك سيساعد على بروز صناعة ألعاب فيديو حقيقية .
ولعلّ من مزايا هذه الصناعة   أنها مستقلّة  تكنولوجيّا وأنها أصبحت في المتناول عن طريق تعليم علمي تقليدي جيّد . وفي كل مرّة يتم فيها تنظيم مسابقة في البرمجية  إلا وكان فريق بولوني ضمن الفرق الأحسن . وتاريخيّا تعتبر بولونيا قويّة جدا في العلوم الصعبة . واليوم يمكن أن نعتبر أن من أهم مميزات هذا البلد استقلاله التكنولوجي . أما الشبان البولونيون فيخلقون أدوات التطوير  بأنفسهم  عوض اللجوء إلى استعمال الحلول الجاهزة والسهلة الأمريكية أو السويديّة . ويعتبر هذا عنصرا مميّزا لهؤلاء الشبان لأنه يجعلهم يركّزون على الأمور التي تجلب اهتمامهم  ويغرمون بها  على  غرار الصورة الواقعية أو تأثيرات الضوء .
ومع ذلك  لا يزال قطاع صناعة ألعاب الفيديو  في بولونيا  مجزّأ للغاية . وهو يعدّ حوالي 500 ستوديو للتطوير وتنتج هذه المؤسسات  متواضعة  الحجم بالأساس ألعابا حرّة دون دعم من الناشرين (Activision و Blizzard و Electronic Arts  ... وغيرها ) ودون وسطاء يؤمّنون النشر والتوزيع  لألعاب الفيديو .
وبفضل ظهور منصات التوزيع عبر الأنترنات على غرار " Steam  "  استطاعت الألعاب الحرة البولونية أن تحصد اعترافا دوليا بها . ويمكن القول اختصارا في هذا المجال إن بولونيا لها الخبرة والمعرفة وما ينقصها إلا أن تعرّف بخبرتها ومعارفها .
وبما أن كافة الفرص يمكن أن تكون طيبة فقد حصل الرئيس باراك أوباما خلال زيارة أداها إلى بولونيا  على هدية تتمثّل في نسخة من  لعبة " الساحر " . وصرّح " دونالد توسك "  الوزير الأول البولوني آنذاك  قائلا : " أعترف بأنني لست لاعبا جيدا في ألعلب الفيديو لكنهم قالوا لي إن المكانة التي تحتلها بولونيا في الاقتصاد العالمي الجديد مثال جيّد يحتذى به .
وبعيدا عن الكليشيات التي تقال عن ألعاب الفيديو وعن طبعها " الطفولي " فإن هذا القطاع بات صناعة قائمة وفّرت العديد من مواطن الشغل  وخلقت قيما مضافة . وفي بولونيا أصبح هذا القطاع مثالا في اقتصاد ينحو بوضوح نحو  المجال الرقمي .
وحسب آخر تقرير أوردته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE )  حول بولونيا من المهمّ جدا تعزيز الابتكار وتحسين البنى التحتية والاستثمار في الكفاءات . واعتبارا للمشاكل التي باتت تمثلها اليد العاملة  والكفاءات  فهم العديد من العاملين  وأدركوا اليوم قيمة الاستثمار في التكوين حتى إن اقتضى ذلك  التعاون مع البلدان ذات الإمكانات العالية والأجور المنخفضة نسبيًا  مثل تونس.


دروس وآفاق
إن آفاق ألعاب الفيديو واعدة جدا لتونس سواء   تعلّق الأمر بالترفيه أو أيضا في استعمالات أخرى مثل " الألعاب الجادّة " (serious games  )  وهي بالفعل أداة بيداغوجية بإمكانها ان تحدث ثورة في النظام التربوي التونسي ... وميادين أخرى على غرار " e-santé "  والكائنات المتصلة أو المدن الذكية . وتسمح لعبة الفيديو أيضا للمؤسسات بالترويج لمنتجاتها  وتعميم التكنولوجيات الحديثة لدى الجمهور الواسع كواقع افتراضي  أو حقيقة افتراضية .
ولا شك أن ألعاب الفيديو على الهاتف الجوال والألعاب على الانترنات بواسطة الحاسوب ستسجّل ارتفاعا قويّا في السنوات القادمة على حساب  الألعاب التي تمارس على وحدة التحكّم . وهذه الظاهرة سيكون مصدرها " الاتصال المفرط للأفراد " (l’hyper connectivité des individus  )   الذين يريدون  أن يستهلكوا  ما يريدون في أي وقت يريدون وعلى المنصة التي يختارون أي عبر مجموعة متنوعة من الوسائط ( هواتف ذكية لوحات لمسيّة ... وغيرها ..).
ولعلّ ما لا يعلمه  الكثيرون أن لعبة  الفيديو أكثر أهميّة من حيث رقم المعاملات مقارنة بالسينما والموسيقى . وهي كذلك تعد بآفاق هامة في التطوير بفضل " دمقرطة " اللعبة على الهواتف الذكية .ورغم ذلك فإن هذا القطاع الذي بلغ أوج العطاء والتطوّر ويعدّ تنوعا كبيرا في المهن ما زال غير معروف بالصفة الكافية في بلادنا . فالنظام التربوي الحالي في بلادنا لا يسمح بتطوير الكفاءات اللازمة لوضع صناعة للألعاب مثل مفهوم  " artist و game designer و level designer و community manager و brand manager و Graphiste 2D و Modeleur/textureur 3D و Animateur "  ... وغيرها .
ويعتبر دور القطاع الخاص مهمّا جدا . كما أن دعمه وتعاونه مع المجتمع المدني من أجل إطلاق المبادرات المجددة والأصيلة مهمّ أيضا  وحاسم .وعلى سبيل المثال فقد تم إبرام اتفاق تعاون وشراكة بين مؤسسة " MDI "  ومجموعة  " SOFRECOM Tunisie "  من أجل الانطلاق في دورات تكوين في الألعاب وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تونس ولاحقا في إفريقيا الشمالية .
وفي هذا الإطار صرّح السيد غازي بن أحمد مدير مؤسسة " MDI  "  قائلا : " هذا التآزر والتعاون مع مؤسسة " SOFRECOM "  سيمكّن من دخول الألعاب إلى مرحلة  الاحترافية في تونس . ومن المهمّ جدا أن يقطع الشبان مع التعويل على القطاع العام  وأن يجدوا  البدائل الموثوق بها في القطاع الخاص . وإضافة إلى هذا فإن التعاون مع بولونيا في هذا المجال سيعطي الرؤية اللازمة لمواهبنا ويمكّنهم من التعاون مع ستوديوهات الألعاب حتى لو اقتضى الأمر العمل بالوكالة في بعض المهمات  لأن بولونيا يمكن أن تكشف لنا معالم الطريق .".

في الخلاصة
في عالم يشهد نسقا  أكثر سرعة وفي اتصال دائم فإن  رهان الاستثمار في رأس المال البشري ومجموعات التكنولوجيا  (Tech Clusters )  ومرادفات  الشغل والتنمية وكتلة الابتكارات والتفتّح الفكري  هو التحدي التكنولوجي والاقتصادي وأيضا السياسي والثقافي لتونس الجديدة . ومن هنا تأتي ضرورة التكوين والجودة وثقافة  ريادة الأعمال التي يمكن أن تمثّل المفتاح بالنسبة إلى الكثير من المشاكل التي تفاقمت بعد الثورة على غرار تقلّص النموّ الاقتصادي و هجرة الأدمغة أو هروبها وتفاقم ظاهرة البطالة  لدى الشباب ومسألة التنافسية بالنسبة إلى مؤسساتنا .
ومن هنا يتحتّم علينا الإصلاح من المنبع وإحداث ثورة في التعليم يمكن أن تصلح شيئا من الحياة العملية ومن مهن المستقبل . ومن هنا أيضا يمكن أن تمثّل التجربة البولونية بالنسبة إلينا مصدرا للإلهام والتعاون .
 

التعليقات

علِّق