الشورى والديمقراطية ودولة الخلافة

الشورى والديمقراطية ودولة الخلافة

بقلم نوفل بن عيسى 

"إن العصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح. ولكل واحد منها حكم يخصه". هذا استنتاج ابن خلدون في شأن الخلافة والسياسة وهذه إشكالية الحكم في تونس بعد الثورة.

ولأنه من المفروض أن تتمثل الثورة "في استبدال نظام حكم بنظام آخر" تولد جدل حول النظام الجديد المنشود. وصار الحديث حول الحكم بالشريعة وماهية الشريعة أو بالديمقراطية العلمانية أو حسب المقاربة اليسارية أو الليبيرالية والرأسمالية أو القومية العربية؟
وإثر أول إنتخابات تشريعية فازت النهضة بالأغلبية وفي ذلك دليل على أن أكبر نسبة من الناخبين رجحوا مرجعية النهضة الاسلامية للحكم.
وبعد عشرية والحركة مكون أساسي للسلطة، تراجعت شعبيتها وصار الحزب الدستوري الحر الجديد يتصدر كل استطلاعات الرأي. وهذا معناه أن ثقة الناخبين في النهضة قد تراجعت وتقلصت لصالح حزب اقصائي ينادي بشتى الطرق إلى إعادة نظام الحكم القديم الذي ثار عليه الشعب وثأر منه بإزاحته من المشهد السياسي وكأن في ذلك تذكير بقصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء الاندلس وطالعها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان... فلا يغر بطيب العيش انسان
هي الأمور كما شاهدتها دول... من سره زمن ساءته أزمان.

فكيف حصل هذا؟
في حركة النهضة توجهات. فمنها من يميل إلى الإحتكام إلى الشريعة الاسلامية ونظام الخلافة مثل الحبيب اللون والصادق شورو وحتى حمادي الجبالي الذي استعمل في خطاب عبارة "الخلافة السادسة". وهناك من يميل الى تحكيم العقل في الحكم ليناسب مقتضيات العصر ولكن مع التقيد بحدود الدين. وقد تزعم هذا المنهج الأستاذ عبد الفتاح مورو وهو أكثر قادة الحزب واقعية وحداثية وعقلانية.
وما يعرف عن النهضة أنها حركة تعتمد الشورى في قراراتها من الناحية المبدئية ولكن الفعل والواقع بينا أن الحاسم في شؤون الحزب وتوجهاته هو الحاكم بأمره والمرشد بمنزلة خليفة المسلمين رئيسه. وهذا ما جعل معارضيه من بعض قادة الحركة يعبرون في رسالة أمضاها ما يناهز المائة، منهم د.عبد اللطيف المكي وأ.سمير ديلو، على ضرورة تغيير هذا التمشي والأسلوب في التسيير إضافة الى انسحاب قادة آخرين منهم رئيس الحكومة الاسبق "المهندس" حمادي الجبالي وعبد الحميد الجلاصي ومحمد بن سالم وزياد العذاري.
وأما في ما يتعلق بالجدل حول الشورى والديمقراطية في الحكم فقد وجد الشيخ راشد الغنوشي حلا وسطا عبر عنه بالتوافق في الحكم. ولكن بعد عشر سنوات من العمل به لتشريك ما أمكن من الأطراف المتنازعة في الحكم "لألا يجوع الذئب ولا يشتكى الراعي"، انتهى الأمر بالبلاد الى طريق مسدود ومتأزم زادته الازمة الوبائية حدة.
ويفسر بعض المشاهدين والمحللين بأن "النهضة أتت إلى الديمقراطية ولم تذهب إليهاالديمقراطية" وعليه فهي غير قادرة على الإقناع باعتماد الشورى ولا على استعاب الديمقراطية ولا على التوفيق في الحكم بالتوافق.

وفي حين يوجد بداخل الحركة ومن المتعاطفين معها من يؤمن بضرورة مواصلة العمل على تحقيق أهداف الثورة فإن الشيخ راشد الغنوشي اعتمد مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"حتى وصل به الأمر الى التصالح والتحالف والتشارك مع "القوى المعادية للثورة" في شخص الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والتطبيع مع الفساد بتحالفه مع حزب قلب تونس وبالتالي حصل الانقلاب على الثورة والالتفاف عليها وصار تحقيق أهدافها سرابا وانتهى أمرها.

وما زاد الطين بلة في الحركة إزاحة الأستاذ عبد الفتاح مورو "بكل لطف وسلاسة" وهو المنادي باتباع الحكم العقلاني مع التعيد بحدود الدين الاسلامي خاصة أن
الدولة التونسية اعتمدت الإسلام الزيتوني المعتدل منذ تأسست الدولة المدنية. وأما "التشريع الاسلامي" فهو متبع في التشاريع الوضعية والعديد من القوانين ذات مرجعية اسلامية ومنها مجلة الاحوال الشخصية التي صاغها وحررها بعض مشائخ جامعة الزيتونة وخريجوه وقد تبين أنهم أكثر تقدمية من مشائخ اليوم.
فأي مصلحة لدينا اليوم في افتعال مشاكل وفتن، ليس الزمان زمانها ولا المكان مكانها، في حين كان من المفروض العمل على توفير حاجاتنا الحقيقية والمصيرية وتحسينها وتطويرها في العلم والمعرفة والثقافة والعدل، أساس العمران، والحكم الرشيد والعدالة الجبائية والتوصل إلى بناء دولة حداثية ديمقراطية وتقدمية.
كما أن المجتمع التونسي في حاجة أكيدة وحتمية إلى رفعة الأخلاق خاصة وأنها  زادت فسادا عما كانت عليه قبل الثورة إذ
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا"

فإلى أين نحن ذاهبون؟ 

التعليقات

علِّق