"الاقتصاد الموازي" والأسئلة الكبرى المسكوت عنها !

"الاقتصاد الموازي" والأسئلة الكبرى المسكوت عنها !

تٌحلينا عبارة "الاقتصاد الموازى" إلى مجموعة من الانشطة التجارية والاقتصادية الغير مشروعة التى تتم فى المناطق السفلية والمظلمة  من الاقتصاد أو ما اصطلح على تسميتها "بالكنترا" ...

وحتى جهابذة الاقتصاد والسياسة لا يٌفوّتون أي فرصة ظهور اعلامى تمرّ دون تفريغ شحنة  حنقهم وجام غضبهم "المثقفاتى-النخبوى" صوب هذا النمط التبادلى الخصوصى للاقتصاد (بالمناسبة تشترك فيه جميع الاقتصاديات فى العالم بنسب متفاوتة) وتحميله الخطيئة الأصلية  فى حالة الانهيار الاقتصادى الذى نشهده اليوم ... 

لكن بين مفردات واقع "الاقتصاد الموازى" المركّب بهناته العديدة وخصوصياته المتعددة والأدوار الاجتماعية "الغير معترف بها " الذى ما انفك يضطلع بها منذ 2011 الى اليوم، وبين الصورة الدراماتيكية المٌسقطة التى تعمد عدد من وسائل الاعلام على تقديمها للعموم مسافة كبيرة  لا يمكن قيس  "مداها المترى" دون محاولة استنطاق الأسئلة الكبرى المسكوت عنها بعيدا عن دارة "الافكار  المسبقة" المغلقة. 

س 1 : ما درجة دقة عبارة "الاقتصاد الموازى" ؟

 في ظل غياب توافق بين الخبراء حول وضع مفهوم موحّد «للاقتصاد الموازي» كيف يمكن مقاربة المفردات التالية : اقتصاد موازي - اقتصد غير مهيكل - اقتصاد غير نظامي - اقتصاد خفي - اقتصاد الظل الخ الخ ؟

بالفعل «للاقتصاد الموازي» نعوت وتوصيفات عديدة تتغير بتغير السياقات والمصالح وحتى الأمزجة الذاتية أيضا.. فمنهم من يطلق عليه "بالاقتصاد الموازي" بالمقارنة بالاقتصاد الرسمي المقنن.. ومنهم من يقدمه كنموذج لاقتصاد غير مهيكل دون توصيفه بالموازي، وكثيرا ممن يعتبرونه اقتصادا مافيويا خفيا ينبغي استئصاله بالكامل...

في المحصّلة جميع النعوت تعكس مضامين دونية اطلاقية ومتشنجة في حين كان بالإمكان التعاطي مع "الاقتصاد الموازي" حالة بحالة والاكتفاء بنعت القسم المشروع منه "بالاقتصاد الخارج عن نطاق الخدمة "  لا لعجز في ذاته بل لعدم قدرة الاقتصاد الرسمي المهيكل على استيعابه، أما الهوامش المتبقية منه فانها تشتغل ضرورة "كوفاق اقتصادي" للجريمة المنظمة والارهاب، والتى ينبغى التعامل معها بقوة وبصيرة "دولة القانون والمؤسسات " لا غير.

في مطلق الأحوال،  ان اختزال هذه المعضلة في المسالة اللغوية لا يساعدنا كثيرا على فهم هذه الظاهرة التي تحولت الى "ثابتة مجتمعية كبرى" يتوجّب التفاعل معها بقدر كبير من المسؤولية والعمق بعيدا عن التوظيف والمزايدة...

في هذا المجال، يمكن للقطاعات ذات الصلة "بالتجارة البينية" الحدودية، و"بالسياحة الايكولوجية" واختصاصات أخرى ذات علاقة «بتثمين النفايات بأنواعها» و«الاقتصاد الرقمي» بتعبيراته المتعددة ان تشكّل مساحات تموقع استثمارية بديلة  وجيدة "للاقتصاد الخارج عن نطاق الخدمة" داخل الجهات وهوامش المدن الكبرى حيث تتمركز جيوش بونابرتية من المنقطعين بشكل مبكر عن التعليم وحاملي الشهادات العليا في حالة من العطالة المزمنة وهى اليوم وأكثر من أي وقت مضى عرضة لان تقع في أية لحظة في مصيدة الاذرعة المافيوية/الإرهابية "للاقتصاد الموازى الأسود".

س 2 : موازي عن من ؟ 

لسائل أن يسأل، هل ما درج على توصيفه "بالموازى" اقتصاد منفصل تماما عن "الاقتصاد المقنن والمنظم" أم هو في حالة من التداخل النفعي معه ؟

لسائل ان يسال ايضا ألا يعدّ قسما من الأنشطة الخاضعة "للنظام التقديري" او تلك البضائع المجهولة المصدر المعروضة بالمحلات التجارية النظامية والمساحات الكبرى جزءا من النظم الموازية المقنّعة والمندسة في الاقتصاد المهيكل بعد أن تم إخضاعها فقط لجراحة تجميل محاسبتية وجبائية ؟

والأسواق "الموازية" المنتصبة على كامل خطوط العرض والطول من «بن قردان» مرورا بأسواق «الجم» و«مساكن» وصولا الى «أسواق بومنديل» و«منصف باى» في قلب العاصمة وغيرها من الأسواق الموازية المقنعة.. والشاحنات التي تسلك يوميا طرقنا السيارة قبل الفرعية والمحملة بما جاد به "الاقتصاد الموازي" .. ومراكز الصرف المنتصبة على قارعة الطريق.. والكميات الهائلة من المحروقات المعروضة للبيع.. ومخازن الشحن والتفريغ الكبرى الغير الخاضعة للرقابة الديوانية التي لا تخلو منها أية منطقة من البلاد.. وأموال التهريب التي يتم ضخها في القطاع البنكي لتمويل عمليات توريد نظامية أو مضاربات عقارية في وقت لاحق..والميكانيكي المتجول وغيره من أصحاب المهن الصغرى الغير قادرين على الانتصاب القانوني.. ومصممي المنصات الرقمية ومواقع الواب والباعة والوسطاء عن بعد النشطين بالمقاهي وقاعات الشاي والبيوت المغلقة.. شواهد وأخرى تؤشر الى أن ما اصطلح على تسميته "بالاقتصاد الموازي" لا يتحرك بمنأى عن الاقتصاد الرسمي المهيكل بل أمسى احد قواعده الخلفية غير المعلنة.. كما أنه يستبطن عددا لا يحصى من "الاقتصاديات الموازية" تتوزع بين أنشطة مشروعة من تجارة حدودية بينية وغيرها وأنشطة غير مشروعة من اتجار بالمخدرات والسلاح الخ، وبالتالي فان أية محاولة للتعاطي مع هذه الاقتصاديات الموازية ككتلة إسمنتية متجانسة مالها الفشل الذريع لا غير...

س3 : الى أي حدّ يمكن اعتبار "الاقتصاد الموازي" مدمرا لمقومات الاقتصاد الأساسية ؟ 

علينا جميعا الاقرار بأننا دأبنا منذ أمد بعيد على اعتبار "الاقتصاد الخارج عن نطاق الخدمة" اقتصاد مواز مدمر لمقومات الاقتصاد الأساسية في عالم متغير بصدد إعادة تشكيل لمفرداته ولنماذجه الاقتصادية بالكامل.

فعندما تغيب البدائل التنموية التي من شانها تغيير اليومي.. وعندما ينزل سقف عيش المواطن الى عتبة تحقيق الحدّ الأدنى من مقومات البقاء من "سلم ماسلو"، فان ما ننعته خطا "بالاقتصاد الموازي" الى جانب كونه بصدد كسب مشروعية تشغيلية وقوة إقتصادية متنامية (فمن نسبة 38 ٪ من الناتج الداخلي الخام سنة 2002 وفق تقرير "البنك الدولي" يتخطى "الاقتصاد الموازي" اليوم عتبة 50 بالمائة)، فانه يلعب منذ عقد من الزمن دورا أساسيا في الحفاظ على "الحد الادنى المضمون المجتمعى "  Smig sociétal دونه كان من المستحيل الاستمرار فى حالة من السلم الاجتماعية والعيش المشترك.. أما التعبيرات الإجرامية والإرهابية "للاقتصاد الموازي" فهي في جزء كبير منها نتيجة مباشرة لوهن شديد أصاب الدولة في حماية نفسها حيال إخطبوط مافيوى داخلي جدّ منظم وأجندات إقليمية ودولية تتجاوز الأفق الجيوسياسى التونسى بكثير...

س4 : كيف يمكن دمج "الاقتصاد الخارج عن الخدمة" أو ما يعرف "بالاقتصاد الموازى"؟

بالاستئناس بالنماذج المقارنة القريبة منا - خاصة الشقيقة المغرب - فان الدعوة الى دمج دغمائى وقسرى"للاقتصاد الموازي" صلب المنظومة "الاقتصادية الرسمية" دون التفكير في منطقة وسط قد يلعبها "الاقتصاد الاجتماعي والتضامني" يٌعدّ بالتأكيد تسطيحا للمسالة قد تكون أولى ارتداداته السلبية على القطاع المنظم ذاته...

فالبعض من أصحاب العقول الخارقة (وهم بالمناسبة كثر هذه السنوات الأخيرة) لم يتوقفوا للحظة عن مطالبة الحكومات المتتالية بالإسراع بتنفيذ مشروع "مارشال" بنسخته الأصلية، وآخرون لا تزال تستهويهم العبارة الشهيرة «دعه يعمل دعه يمر» في نسختها التونسية الطريفة "طفّى الضوء خليه يخدم".. في حين ان مشروع "مارشال" بمواصفات تونسية خالصة ممكن ومتاح خاصة وأن "الاقتصاد الاجتماعي والتضامني" المتجذّر في تاريخنا وجغرافيتنا ومنظومتنا التشريعية (القانون عدد 30 لسنة 2020 المتعلق بالاقتصاد الاجتماعى التضامنى) لديه من الكفاءة العالية ان تمت إعادة تأهيله وحوكمته بشكل جيّد على استيعاب القسم المشروع من الاقتصاد الخارج عن نطاق الخدمة (الاقتصاد الموازي) وفق منظور تنموي مستدام يؤسس لشراكة رابحة ثلاثية الأضلاع بين القطاع العام والخاص والتضامني بدايتها ومنتهاها الإنسان التونسي...

س5 : أخيرا متى نتحرّر من فوبيا "الاقتصاد الموازي" ؟

نترك لكم هذه المرة عناء الاجابة عن هذا السؤال ! 

 

بقلم : محجوب لطفى بلهادى

باحث فى القانون العام والتفكير الاستراتيجى

التعليقات

علِّق