الإعلام التونسي وضرورة الإصلاح: لماذا حان الوقت للتحرك

الإعلام التونسي وضرورة الإصلاح: لماذا حان الوقت للتحرك

لم يعرف المشهد الإعلامي منذ قيام ثورة 14 جانفي 2011 أي إصلاح لتحسين أدائه و الارتقاء  بألياته و بوضع العاملين فيه. و هو أمر يبدو غريبا شيئا ما نظرا لأن الإعلام كان في صدارة المؤاخذات التي كانت توجه للنظام قبل قيام الثورة. و هو إصلاح لابد أن نسعى إليه منذ اليوم لأنه سيفرض نفسه لما حالة و إن لم يكن الأمر كذلك فسيبقى الإعلام في بلادنا متخلفا وسط محيط عالمي و جهوي يطمح دوما إلى الأفضل مع خاسر أكبر و هي دمقرطة المجتمع و تحديثه.

هل سمعتم أن حزبا من الأحزاب التونسية تقدم بمشروع لإصلاح المنظومة الإعلامية في بلادنا؟ السؤال لابد أن يطرح اليوم و  نحن نحتفل بالذكرى العاشرة للثورة التونسي. خاصة و أن الإعلام كان دوما في صدارة المؤاخذات التي كانت توجهها أحزاب المعارضة للنظام الذي كان يحكم البلاد قبل الثورة و الذي كان لا يحترم حرية الصحافة. 

و تجدر الملاحظة هنا أن حتى الحكومات التي تعاقبت في البلاد منذ 2011 لم تكن مبادرتها في المجال كثيرة العدد و أنها لم تتول في تعاملها بالخصوص مع الإعلام   مقاربة "سيستيمية" تتميز بالشمولية تأخذ في الاعتبار كل المتغيرات المتعلقة به  و وضعه المعقد و متعدد المناحي. ماعدا تجربة حدثت زمن رئيس الحكومة حمادي الجبالي حاول أن يجمع في حوار نظمه أطراف مختلفة لتدارس واقع الاعلام و لكنه وتم إجهاضه سريعا.

و من المؤكد حسب بعض المتابعين للشأن الإعلامي فإن هذا الوضع تسبب في تردي حالته و زاده سوء على سوء. و هي رؤية تقول أن من لا يتقدم يتراجع و أن الوضع الجديد أصبح لا يحترم أي قواعد عمل على عكس ما كان موجودا قبل الثورة التونسية بالرغم من أن هذه الضوابط كانت بطبيعة الحال مبنية على منظومة الدكتاتورية.

ومهما  كانت المقاربات فمن المؤكد كذلك أن الإعلام لم يعرف منذ أحداث 14 أكتوبر 2011 الإصلاحات اللازمة و التي تواؤم مع واقع ديمقراطي جديد يمكنها من الارتقاء بكل مكوناته و بقى الواقع التونسي متأخرا مقارنة بالأوضاع التي تعرفها دول موجودة حتى في جواره مثل المغرب و الجزائر التي تقدمت خاصة في باب التشريعات.

حوار شامل حول واقع الإعلام

و من هذه الزاوية بالذات فإن المتمعن في واقع الإعلام اليوم يمكن أن يتبين أنه كان على البلاد أن تذهب في اتجاهات إصلاحية ثلاث و ذلك انطلاقا من تجارب دول أخرى خاصة أوروبية عرفت انتقالا ديمقراطيا و هي أمثلة يتم الاستئناس بها مثل دول شرق أوروبا التي عاشت أكثر من أربعين سنة في ظل منظومة دكتاتورية يحكمها ما كان يسمى بالستار الحديدي للاتحاد السوفياتي سابقا.

  • تنظيم حوارات حول واقع المنظومة الإعلامية و سبل إصلاحها. على أن يشمل هذا الحوار مختلف المتدخلين في هذه المنظومة من ممثلين عن السلطة التي تشرع و تنظم قطاع الإعلام و ممثلين عن المهنين بمختلف أطيافهم والمجتمع المدني و من بينهم بالخصوص النقابات و فاعلين أخرين مثل المؤسسات التي تعنى بالتكوين و البحث    و الدراسات الميدانية و غيرها. و كذلك أن يشمل هذا الحوار كل القطاعات (صحافة ورقية و صحافة رقمية و إذاعة و تلفزيون و إشهار,...)

و لهذه العملية بالطبع جملة من المنافع و منها بالخصوص شعور كل الأطراف المتدخلة بالمسؤولية و عدم إقصائها خاصة و أن لا أحد يمتلك لوحده الحلول فضلا عن أن المقاربات قد تختلف في تحديد تشخيص الواقع والنقائص و الهنات و كذلك بالطبع الحلول و إضفاء مزيد من الصدقية و النجاعة على هذا الحوار.  

و بالرغم من أن الأمر يخص دولة من العالم المتقدم فإن من أهم التجارب التي عرفها العالم في هذا المضمار تبقى الأيام التي نظمتها فرنسا سنتي 2008 و 2009 زمن الرئيس الأسبق نيكولا سركوزي لدراسة سبل النهوض بالصحافة المكتوبة   و التي كانت تعاني عديد الصعوبات خاصة المالية منها. و هي حوارات أفضت لبرنامج عمل تضمن خطة متكاملة إهتمت بكل الجوانب التي تطرقت إليها الحورات المنظمة.

  • إصدار جملة من التشريعات من خلال مبادرات تصدر عن السلطتين التنفيذية (رئاسة الجمهورية و الحكومة) و البرلمان. وهي تشريعات تكون حصيلة الحوارات التي قد تهتدي لإقرار نصوص جديدة أو تنقيح نصوص قديمة  و لكنها لم تعد صالحة لمواكبة التطورات و التحولات.

 

و تجدر الإشارة في هذا المضمار أن بعض التشريعات مثل المنشورين 115 و 116 أصبحا في صدارة النصوص التي لابد من مراجعتهما لتنظم قطاعي الصحافة المكتوبة و الصحافة السمعية البصرية اللذان عرفا تطورات كبيرة خلال السنوات الأخيرة على مستوى الشكل و المضمون و طبيعة المهن. كذلك الأمر بالنسبة إلى قرار الفصل بين الإذاعة و التلفزيون العموميين الذي لعله لم يعد يفي بالحاجة في زمن يتميز خاصة باندماج المحامل و المضامين.

 و يمكن أن نذكر في نفس السياق ضرورة إستصدار نص ينظم الصحافة الرقمية و ذلك قصد تشجيعها بوضع مساعدات والتفريق بين مؤسسات تشتغل حسب ضوابط مهنية من بينها تحيين المضامين بشكل مستمر و تحترم هيكلة و نمط إنتاج صحفي و أخرى لا فرق بينها و بين المدونات أو صفحات الشبكات الاجتماعية.

إعادة النظر في جوانب من تشريعات المنظومة الإعلامية

و كذلك الأمر فيما يخص موضوع المساعدات التي تشمل الصحافتين الورقية والإلكترونية و التي يكفلها دستور البلاد مثلما هو الشأن في عديد دول العالم بما فيها دول الجوار. علما أن هذه المساعدات على قلتها تم الاستغناء عنها منذ الثورة مثل الاشتراكات في الصحف و   المساعدات المقدمة للصحف الجهوية و التي انقرضت تقريبا اليوم. في زمن يتحدث فيه الدستور التونسي عن سلطة جهوية تدار بأسلوب الديمقراطية التشاركية.

و قد يطول الحديث في هذا المجال نظرا لضرورة إصلاح قطاع لم يعرف مبادرات تشريعية جديرة بالذكر في السنوات الماضية بالرغم من إحداث الهيئة العليا المستقلة للقطاع السمعي البصري و استصدار كراسات شروط لإحداث قنوات إذاعية و تلفزيونية والتي تعتبر رغم هناتها مكسبا هاما.

و  لعله من الضروري كذلك إعادة النظر في المنظومة التي تخص الموارد البشرية في الإذاعة العمومية و المنظومة الخاصة بالعاملين في التلفزة العمومية (النظام الأساسي). علما أن الأول أحدث في 2007 و الثاني في منتصف التسعينات.

ج-  استكمال المشهد الإعلامي بالتشجيع على تغيير نمط الإنتاج في المنظومة الصحفية بأكملها وإحداث مؤسسات ترعى   و تتولى تأطيرها تكون في جانب كبير في إطار شراكة بين المتدخلين في المشهد الإعلامي.

فمن أهم المبادرات التي قد تحصل في هذا السياق إنشاء هيكل يعنى بقيس المشاهدة و  الإستماع و المطالعة و الإبحار و أخر يهتم بمسألة التحقق من انتشار الصحف والمجلات الورقية و الإلكترونية. الشيء الذي قد يمكن من الحصول على معطيات دقيقة و تتوفر  فيها مصداقية.

و في نفس السياق فالمشهد تنقصه مؤسسات أخرى تبنى بالشراكة بين المتدخلين و بخاصة المؤسسات الإعلامية و ووكالات الاتصال و الإشهار و كذلك المستهلكين و التي يمكن أن تحظى بفضل هذه التركيبة من فرص لإقامة مبادرات للتعديل الذاتي مثلا فيما يخص الإشهار و احترامه للمعايير المهنية.

تعميم ما تسمى اليوم بأليات الحوكمة في مجال التحرير

وبالطبع  ينقص المشهد كذلك هياكل أخرى كمؤسسات لإقامة البحوث و الرصد و المتابعة و ذلك دون اعتبار الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري التي لا يمكن أن ترصد كل ما يجري في المشهد بمختلف مكوناته مثل الصحافة المكتوبة و الإلكترونية و الإشهار و غير ذلك من المضامين و المحامل.

و في خصوص نمط الإنتاج فلابد للمؤسسات الإعلامية أن تفتح لمبادرات جديدة فيما يشكل اليوم التوجهات الأساسية للمهنة مثل الجودة (جودة المنتوج و كذلك جودة المنظومة الإعلامية ككل في كل نشاطاتها من إدارة الإشتراكات و العلاقة مع المستهليكين و التكوين,...) و الإبتكار و غير ذلك من التطورات.

كذلك الشأن بالنسبة إلى تعميم ما تسمى اليوم بأليات الحوكمة في مجال التحرير و التي تتطلب ضبط مواثيق للتحرير لتحديدالأهداف و طريقة معالجة الأخبار و التعريف بالجمهور المستهدف و إحداث خطة موفق بين الجمهور و المؤسسة الإعلامية,...

و هو منحى لابد أن نسعى إليه منذ اليوم لأنه سيفرض نفسه لما حالة و إن لم يكن الأمر كذلك فسيبقى الإعلام في بلادنا متخلفا وسط محيط عالمي و جهوي يسعى دوما إلى الأفضل مع خاسر أكبر و هي دمقرطة المجتمع و تحديثه.

بقلم الأستاذ : محمد قنطارة

التعليقات

علِّق