الأعمال التلفزية في رمضان : بعضها إفلاس وفراغ وبعضها رصاص يصيب المجتمع في مبادئه وأخلاقه ويهدد بالإنفجار ؟

مع مرور الأيام والأعوام يتضح لنا شيئا فشيئا أن ما كنّا نبّهنا إليه منذ مدة طويلة يكاد يصبح اليوم حقيقة وأمرا واقعا لا مفرّ منه . ولعلّ ما يعرض في القنوات التلفزيونية التونسية سواء في شهر رمضان أو خارج الشهر الكريم دليل على أن الطوفان قادم إذا لم ننقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان .
وقبل أن ننطلق دعونا نتّفق على أن ما يقال عن علاقتنا بالقنوات الخاصة يتلخّص في مجرّد " فلسة " نستعملها لتغيير المحطة إذا لم يعجبنا أمر مشاهدتها لا أساس له من الصحّة وهو حلّ الضعفاء والمستقيلين . فهذه القنوات الخاصة ليست حرّة في أن تبثّ كل ما يحلو لها حتى إن كان ضدّ ثوابت هذا المجتمع . وحسب علمنا فقد التزمت بالحفاظ على حدود معيّنة لا تتجاوزها مهما كانت الأسباب .
مجتمع مخدّر من رأسه إلى أساسه ؟
منذ مدة طويلة انخرطت بعض القنوات ( إلى جانب العديد من المحطات الاذاعية ) في ما يشبه الحملة الحقيقية للدفاع عمّا يراد له أن يصبح " حقّا ثابتا " للشباب التونسي في أن تزلّ به القدم فيجرّب " الزطلة الأولى " دون عقاب . ولم تترك الحوار التونسي أو قناة التاسعة على سبيل المثال ربع فرصة يمرّ دون الحديث عن هذا الموضوع الذي انخرط فيه للأسف رئيس كافة التونسيين دفاعا عن سلوك ورغبة بعض التونسيين فقط . ومن خلال مسلسل أولاد مفيدة مثلا لا يكاد المشاهد يخرج من عوالم المخدرات والخمر والسهر والعلاقات المحرّمة إلى درجة أن المتفرّج يتساءل في النهاية : أليس من المحتمل أن " يطلع " كافة الممثلين في المسلسل أبناء حرام في النهاية ؟. وفي مسلسل " لمنارة " الذي عوّض أولاد مفيدة ومنذ اللحظة الأولى رأينا العالم كلّه وهو " مزطول " ... ورأينا في حلقتين فقط أن العالم كلّه يتعاطى الخمر على الملأ ... وأن العلاقات الزوجية لا تقوم على أي أساس أو مبدأ وأن كل من تمسّه تسمع حسّه فإذا به سكران أو " مزطول " أو خائن أو مشبوه أو مورّط في أمر ما ...
رقص حتى الصباح ...
هناك برنامج على قناة التاسعة ينشّطه ( زعمة زعمة ) أمين قارة وعنوانه فرنسي يعني بالعربية " 100 طريقة " أردت منذ مدة أن أعرف ما هو وإلى أي شيء يرمز وأي معنى منه فلم أفهم ولم أجد له أي تفسير. برنامج يبدأ بالرقص وينتهي بالرقص ... وبين الرقص والرقص ... أيضا رقص ... ولا اعتقد في غمرة ما يحدث في البلاد وخارجها أن هذا البرنامج التافه أتانا هكذا مجانا أي لله وفي سبيل الله . ولا أعتقد أيضا أنه يختلف كثيرا إن لم يكن تتمّة للبرنامج الذي بدأه نظام بن علي وكان يرتكز على ضرب المجتمع في صميمه أي في أطفاله وشبابه فصار أطفالنا التلاميذ على سبيل المثال يفتتحون أيام دراستهم على أنغام صوفية صادق وإليسا ونانسي عجرم ... وغير هذا من " الرويّق " كثير عوض التصبيح على نشيد البلاد الوطني . ورغم أن كل شيء واضح أريد أن أسأل : هل يريد أمين قارة وجماعته أن يقولوا لنا إن مجتمعنا بات يرقص بصغاره وكباره وشيوخه وعجائزه ولا يفعل أي شيء غير الرقص ؟.
حنّبعل ونسمة والقناة 2 : الفراغ ثم الفراغ
بعد مرور 16 يوما من شهر الصيام يمكن لأي شخص أن يستنتج أن البرامج التي تقدمها قنوات حنّبعل ونسمة والقناة الثانية ليس فيها ما يشدّ المشاهد الذي وجد نفسه من فرط ضحالتها يهجر إلى " دنيا أخرى " وإلى أولاد مفيدة وغيرهما من البرامج التي تريد لنا أن نقتنع بأن مجتمعنا هو الذي تمثّله زاوية نظر أصحابها ولا شيء غير ذلك . وبشهادة بعض العاملين في السلسلة أنفسهم فإن ّ " نسيبتي العزيزة 7 " لا يكاد يحظى بنسبة مشاهدة كبيرة كالتي كانت له قبل 3 أو 4 سنوات إذ تراجع كثيرا هذه السنة . كما أن عبد الرزاق الشابي استهلك نفسه بنفسه ولم يقتنع إلى اليوم بأنه لا يستطيع أن يفعل كل شيء بمفرده ... وأما القناة 2 فلم نعد ندري بالضبط ماذا تفعل أصلا في المشهد الإعلامي البصري ؟. هل أنتجت شيئا ما ( أي شيء غير تتنج ) ؟. ألم تملّ أو تكلّ من إعادة " شوفلي حلّ " الذي بدأ الناس يكرهونه رغم ما لاقى من حب واستلطاف من قبل أغلب التونسيين ؟. ألم تملّ من كونها لا تفعل شيئا يصلح وتكتفي بالطلوع مع الطالعين والهبوط مع الهابطين ؟. ولعلّ الحديث بهذا الاقتضاب عن هذه القنوات مجرّد تمهيد للقول إن من هذا الفراغ يتسلل الخراب الذي تعمل على توطينه بعض القنوات الأخرى .
الوطنية الأولى لا تقوم بدورها
مثلما قلنا في مرات عديدة سابقة فإن القناة الوطنية الأولى لا تقوم بأي دور من أجل حماية المجتمع ناسية أو متناسية أنها قناة عمومية ذات مسؤولية مجتمعيّة هامة جدا في التصدّي لكافة محاولات المسخ والتغريب والإفساد التي تستهدف المجتمع التونسي . وللأسف الشديد نرى أن هذه القناة باتت تنفق المليارات على برامج وأعمال ثبت بسرعة البرق أنها تافهة ولا يمكن أن تنافس بها القنوات الأخرى بالرغم من تفاهة تلك القنوات وتلك البرامج معا .
ولعلّ من المفارقات العجيبة أن تنفق التلفزة أكثر من مليارين و300 ألف دينار بين " الدوامة " و " مهما صار " في حين تعجز عن جلب المستثمرين طوال الشهر على عكس القنوات الأخرى التي استحوذت على نصيب الأسد من الإشهار لأن تلفزتنا أعطتها الفرصة من ناحية ولأن شركات سبر " الآراء " ساهمت في توجيه ما أرادت توجيهه نحو الوجهة التي أرادوا أن تكون . ورغم هذا التوجيه أعتقد أن التلفزة هي المسؤولة الأولى عن الحالة المالية التي وصلت إليها لأنها لا توظّف الإمكانات اللازمة في البرامج اللازمة ولا تستغلّ جيوش الصحافيين والتقنيين العاملين بها ( وعددهم حوالي 1400 ) في الانتاج وما زالت مصرّة على شراء الأعمال من منطلق " قطّوس في شكارة " أو تكليف منتجين منفّدين خواص بإنتاج بعض الأعمال ... ولا أظنّ أن هؤلاء المنتجين يعملون من أجل أجر آخرتهم زاهدين في أجور دنياهم . وليس هذا فقط إذ لا أحد يفهم ماذا تعني التلفزة التونسية عندما تقدّم لنا سلسلة مثل " جنون القايلة " مباشرة بعد الإفطار؟. هل تتصوّر ان بهؤلاء " الزّغزغ " ستشدّ المشاهدين وتمنع هجرتهم نحو قنوات أخرى ؟. إن " جنون القايلة " يمكن أن يبث في أي وقت آخر من السنة إلا في رمضان وفي ذلك التوقيت بالذات . فلماذا فهمها العالم كلّه إلا التلفزة فلم افهم ؟.
خلاصة القول :
إن ما نقوله في هذا الباب ليس سوى قطرة من بحر . فقد بات من شبه الحاصل المؤكّد أن مجتمعنا مستهدف وبشدّة في أطفاله وشبابه وما تبقّى له من قيم وأخلاق لم تطلها بعد نيران بعض القنوات التونسية للأسف الشديد . وللأسف الشديد أيضا باتت تلفزتنا الوطنية منخرطة مع " الآخرين " في تشويه صورة المجتمع أو الإيهام بأن ذلك هو مجتمعنا وما علينا إلا أن نسلّم وأن نرضى بالواقع الذي يراد لنا غصبا عنّا طال الزمان أو قصر . فإذا كان المجتمع الذي يصوّره لنا سامي الفهري ومعز بن غربية وقنوات أخرى في أعمالهم مجتمعهم أو مجتمع معارفهم أو مجتمعا يريدون تجسيده على أرض الواقع فهو ليس بالضرورة مجتمع أغلب التونسيين . فهو مجتمع 3 أو 5 أو 10 في المائة على أقصى تقدير من الموسرين الذين يرى فيهم الفهري وبن غربية وغيرهما أنفسهم وليس مجتمع 90 في المائة ممّن يكدحون طوال أعمارهم ولا تتجاوز أحلامهم عيشا كريما ولقمة خبز شريفة تأتي بعرق الجبين ... وحتّى رجال الأعمال الذين يصوّرهم الفهري وجماعته وتصوّرهم التلفزة الوطنية بالوكالة لا نكاد نجد فيهم واحدا نظيفا لا يخون ولا يسرق ولا يخطف ولا يهمل أبناءه وليس له أولاد حرام بالرغم من أن الجميع يدرك أن هناك الكثير من رجال الأعمال التونسيين الوطنيين الذين يعملون في أطر محترمة ونظيفة وقانونية ولا جناح عليهم ولا هم يحزنون . أما المرأة التي نعلم أنها أمي وأختي وزوجتي وابنتي وخالتي وعمّتي ... فقد أصبحت تقدّم في كافة قنواتنا تقريبا على أنها المستهترة المارقة " السلعة " التي تباع وتشترى ... الخليلة التي لا ترى مانعا من إقامة العلاقات مع أي كان وفي أي مكان ... فلم يعد للمرأة العالمة والطبيبة والمحامية والمربية والمهندسة والوزيرة والمديرة أي دور أمام تنامي تلك الصورة المشوّهة والرضا التام للمرأة عموما بهذا التشويه إذ لم نر منها ومن منظماتها ومن وزارتها أي ردّ فعل إزاء ما تتعرّض له في هذه القنوات وغيرها أيضا من وسائل الإعلام .
جمال المالكي
التعليقات
علِّق