الأسر الصامتة ظاهرة تهدّد المجتمع : تعريفها ومخاطرها وكيفية معالجتها؟
بقلم:د.ريم بالخذيري.رئيسة المنظمة الدولية لحماية أطفال المتوسّط
لاشكّ أن عماد المجتمع هي الأسرة فهي مجتمع مصغّر تحكمه ذات القوانين و ذات الأخلاق و السلوكيات التي تحكم البلد بأكمله .و بالتالي فمتى صلح الأفراد فيها صلح سائر المواطنين و العكس أيضا.لهذا نجد الدول المتقدّمة تولي عناية كبيرة للعائلة عكس ما يتراءى للبعض منّا حيث أنّ العلاقة فيها مقدّسة و قائمة على الافقية بين الأولاد و الزوج و الزوجة و الكلّ يساهم من جهته و حسب امكانياته في بناء الأسرة .و الحوارهو القانون الذي يحكمها بعيدا عن الصراخ و الضرب و السلطوية التي تميّز أغلب المجتمع العربي و المجتمعات المتخلّفة .
مرض التوحّد الأسري
من المعروف عن مرضى التوحّد أنهم لا يميلون للاندماج مع الاخرين و لايقدرون على التحاور .وتعرّفه منظمة الصحة العالمية على أن الشخص المتوحد يكون حبيس عالمه الخاص دائما ولا ينظر إليك عندما تناديه .كما أنّ المتوحدون ملتزمون التزاما كاملا بروتينهم اليومي، و يرفضون التفاعل الشديد ضد التغييرات .وعندما ننزّل هاته العلامات على الواقع الأسري في تونس فنجد لها صدى كبيرا عند الكثير من العائلات وهو ما يؤكّد أنّ التوحّد لم يعد مرضا فرديا فحسب وانّما عائليّا أيضا وهنا يكمن الخطر الحقيقي .فالتوحّد الأسري أو البيوت الصامتة تنذر بالكثير من الأخطار التي تهدّد المجتمع و التي سنتعرّض لها تباعا.
يخيّم الصّمت الرّهيب على أغلب البيوت التونسية فلا مكان فيها للتحاور أو التشاور فيما بين أفرادها الذين يفرضون عزلة ذاتية فيما بينهم وتواصلهم اليومي لايتعدّى كلمات معدودات مقتضبة بين الزوجين تتمحور حول متطلبات الحياة اليومية .كما لا يتعدّى الكلام الأمر و النهي بين الأولياء و الأبناء .و الأمر كله لايستغرق 15 أو 30دقيقة وهو توقيت ضعيف لا يساوي حتى 10بالمائة من الوقت الجملي الذي يقضّيه أفراد العائلة منفردين سواء في العمل أو الدراسة أو مع الهاتف الجوّال ووسائل التواصل الاجتماعي.
يؤكّد علماء الاجتماع والدراسات النفسية الحديثة أنَّ الأطفال الذين تربّوا على الحوار تنمو لديهم ملكة الإبداع وتوليد الأفكار بعكس أولئك الذي رُبّوا على قمع أفكارهم وعدم مناقشتها وعدم الاستماع اليهم، ومعلوم أنَّه وراء كل فكرة يتمَّ قمعها ووراء كل سؤال كُبت وترك دون اجابة وأُسكت صاحبه سلسلة وسيل جارف من الأفكار، التي تنمو في محيط الخوف والقهر والقمع، فتثور في المستقبل في صورة أفعال عنيفة أو أفكار متطرّفة.
و يجد بذلك الطفل نفسه مضطرا لخوض تجارب التواصل خارج إطار أسرة ويتّجه لعالمه الخارجي و ما فيه من مخاطر و هو يفتقد صفة التقييم.
كما تشير الأرقام في الوطن العربي و في تونس الى أنّ من الأسباب المباشرة للطلاق المبكّر أو المتأخّر هو انعدام الحوار بين الزوجين وانشغالهما بالعمل أو بالأبناء.
وفي الواقع تعيش معظم العائلات التونسية (وهذا ما يؤكده الاستبيان الذي قمنا به في المنظمة الدولية لحماية أطفال المتوسّط ) تعيش حالات طلاق عاطفي وأنّ الزوجين محرومين من حضانة الأبناء و أن حواجز سميكة بنيت بين أفراد العائلة الواحدة سببها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي و الأصحّ وسائل التقاطع الاجتماعي والتي بالقدر الذي قربتنا افتراضياً فهي قد أبعدتنا واقعياً، فيجلس أفراد الأسرة مع بعضهم في نفس الفضاء ولكن كلٌ واحد عينه على شاشة جواله،أو على التلفاز فلا تواصل ولا اتصال كلٌ له عالمه الخاص وتكاد تتحوّل البيوت التونسية الى مبيتات خاصة أو نزل ليس بالضرورة أن يتعارف فيها النزلاء.
خطر الانحراف الفكري
ممّا لاشكّ فيه أن كل المجرمين في العالم أو حتى الارهابيين و المتشدّدين قد عاشوا طفولة ومراهقة غير سويّة ولم يتعلّموا لغة التحاور و الحوار فحلّت محلّها آليا لغة العنف و القتل .
ولا شكّ أنَّ الأسرة التي تعتمد الحوارأسلوب عيش تحقِّق تقدُّماً مقبولاً ولافتاً في المجتمع.وليكون التحاور ناجحا وفعّلا يجب أن يكون فيه الجميع على قدم المساواة في العرض والاعتراض والشرح والبيان.
فمن شروط الحوار الناجح هو الشعور بالحرية وبالأمان، ويُعطى فيه كل واحد فرصته ليقول ما لديه، كما أنَّه هو الذي يُستمع فيه لكل أحد باهتمام ولا يُسخر من فكرته رغم سذاجتها.وأن تكون فيه اللغة هادئة متزنة وتحترم الأولوية في الردّ وتبيان وجهة النظر وخالية من المقاطعة.
فلا مجال لفرض الرأي من الطرف الأقوى في الموقف الحواري، (الأم و الأب في مواجهة الأبناء.أو الأب في مواجهة الأم .أو الأخ الأكبر في مواجهة اخوته الصغار)بغضّ النظر عن حق الحلقة الأضعف في إبداء الرأي أو حتى التعبير عن الفكرة.
وبيَّنت أنَّ هذه الدراسات أظهرت ضعفاً في الحوار بين أبناء الأسرة الواحدة، بسبب انشغال الأبوين أو أحدهما، أو وجود العمالة، أو الترف الزائد، أو الاعتماد على التقنية وتطبيقاتها بشكل كبير.
الطفل العصفور
ما يلاحظ في علاقة أغلب الأولياء بأبنائهم هو اقتصارها على إشباع احتياجاتهم المادية، كالأكل والملبس ووسائل الترفية وهو كمن يربّي عصفورا يتعهّده و يرعاه ماديّا ليطربه بزقزقته فقط.
وهذا ليس كفيلا بصنع شخصية متكاملة وسويّة للأبناء, حيث لابُدَّ من إشباع حاجاته النفسية .ومن الأخطاء التربوية الشائعة التي يقع فيها كثير من الأولياء مع الأسف هي، إغفال أهمية ممارسة مهارات الحوار الأسري، خاصة مع الأبناء.
و لجوء الوالدين أو أحدهما إلى استخدام أساليب التعامل التسلطية القاسية، كالعنف اللفظي والتجاهل والتهرّب أثناء المناقشات، تجعل الأبناء يشعرون بالخوف والرهبة والإذلال والقلق والاكتئاب والرُّهاب الاجتماعي.هذا فضلا عن خطر بحثهم عن المعلومات و الاجابات من مصادر أخرى قد تكون خاطئة ومنحرفة، وهذا يؤثر في نموهم النفسي ويفقدهم ثقتهم بأنفسهم ويحوّلهم الى قنابل موقوتة قد تنفجر في كل لحظة ويدفع المجتمع ثمن لذلك.
وقد ثبت علميا أنَّ الأبناء الذين يتربون على أساليب الحوار و التحاور هم أكثر الشخصيات قيادية، والأهدأ نفسية.
التعليقات
علِّق